تعلّمت من الشيخ الطاهر آيت علجت درسا في توقير العلماء لقد قمتُ بمهمة التعليم قرابة أربعة أعوام وعمري لا يتجاوز الخامسة عشرة سنة وأصغر الطلبة الذين يحضرون درسي لا يقل عن عشرين سنة، وربما تسلل الشيخ الرزقي من حجرته إلى مكان درسي للوقوف على طريقتي في الدرس ومدى فهمي للموضوع الذي أعالجه. * وقد قدمت هذه الدروس في النحو والصرف والبلاغة والأدب ( كما سيأتي مفصلا ) ! وأنهيت بهذه المنهجية وهذه الطريقة ألفية ابن مالك مرارا ولامية الأفعال وجوهرة التوحيد والسمرقندية وغيرها . وأعترف أن لهذه الدروس أثرها البالغ في تكويني وإعدادي خيرَ إعداد للدراسة بجامع الزيتونة، بحيث انبهر أعضاء اللجنة المكونة لامتحاني بجامع الزيتونة كما سيأتي الحديث عن ذلك في مكانه إن شاء الله . مزاح مثير كما أذكر أنني كنت في درس البلاغة يوما فجاء أحد الزوار، وهو رجل من الأعيان في المنطقة يحب العلم والعلماء، فحضر الدرس وأُعجب به، وراعته اللغة العربية التي التزمت النطق بها، والمحافظة على أدائها، ولما انتهى الدرس أهداني زجاجة عطر من النوع الرفيع، وقال لي في مَلإٍ من الطلبة : ما أسعدني أن تتزوج بنتي الوحيدة ! وأعقب هذه الأمنية بقوله : وليكن في علمك أنها أهل لك بما تمتلك من خصائص الخلق والجمال، وأنها لا تليق إلا بك، لأنك ستعرف قيمة جمالها وخلقها، وستوقظ في أعماقها عواطف غافية نائمة . وإذا كان الرجل يمازحني بهذا الكلام، فإن له أثره العميق في نفسي لدلالته على إعجابه وتقديره . الشيخ السعيد اليجري يقف مستمعا إلى درسي ومما علِق بذهني ولا أنساه، أن المجلس الاستشاري احتاج إلى استشارة الشيخ السعيد اليجري -الذي سبق أن كان طالبا بالزاوية اليلولية ثم شيخا بها- فاستقدموه مِن بيته، ولما وصل إلى الزاوية -وكنت ساعتئذ ألقي درسا للطلبة بالمسجد العربي، ولما سمع صوتي وقف ردحا من الوقت أمام نافذة يستمع إليّ وكان الدرس في قول ابن مالك : والأصلُ في الأخبار أن تُؤخرا وجوَّزوا التقديم إذ لا ضرَرَا فامنعْه حينَ يستوي الجزءان عُرفًا ونكْرا عادِمَيْ بيان ولما انتهيت من الدرس أرسل إليَّ طالبا -وكان الشيخ مولعا بجدال الطلبة، ولا ترتاح له نفس حتى يعجزهم- ولما سمع درسي هاله أن يكون من (ألفية ابن مالك) التي شاع أن لا يتحدث فيها أو يدرسها إلا من له باع طويل في القواعد العربية - فدخلت إليه في الحجرة التي نزلَ فيها، فقبَّلت رأسه - على عادة الطلبة مع شيوخهم - فأمرني بالجلوس، فجلست، فقال لي : أصحيح أنك حفيد الشيخ الشريف؟ فقلت له : نعم . فقال في ابتسامة عريضة : ذلك شيخي وعُدتي إلى الله تعالى، فاحرص جهد الطاقة أن تكون مثله . ثم أخذ يحدثني عنه وعن أخلاقه وصفاته وقيامه الليل، وحرصه الشديد على تربية الطلبة تربية حسنة صالحة، وعن أوراده التي كان يحافظ عليها مهما كانت ظروفه الصحية، ثم سكت قليلا، ليقول في لهجة خافتة ولكنها قوية: إن أصعب الأمور -يا بني- أن تجتمع القلوب عليك سواء أكنت مربيا، أم زعيما، أم رئيسا، أم قائدا، فإذا اجتمعت استطعت أن تفعل بها شيئا. إن سبب الفشل والخسران أن تكون القلوب متفرقة مبتعدة في وجوه مختلفة، وأحمد الله على أن جمع حولك أولئك الطلبة وأنت في هذه السن. وكان يحدثني هذا الحديث، وأنا أقول، عسى الشيخ أن يكون قد أعفاني من جداله، لأني حفيد شيخه الذي يكنُّ له من الاحترام والتقدير، ولكن هذا الأمل، وهذا الرجاء لم يطل حيث سألني قائلا : أعجبني تحليلك للبيتين، وطريقتك لعرض قواعدها، وكل ذلك رسالة واعدة بمستقبل زاهر، وصورة صادقة تقوم على القدوة الحسنة بشيخك العلامة الشرفاوي، ولكن ذلك لا يمنع من اختبار حفيد شيخي ليطمئن قلبي؟ فقلت له : تفضلوا بسؤالكم أيها الشيخ، فأنا من فيض علمكم سأستفيد . ففرك لحيته، ثم سكت قليلا، فقال : سُئلتُ عن إعراب كلمة ( الضاد ) في قول الشاعر العربي شوقي : يا أفصح الناطقين الضَّادَ قاطبةً حديثُك الشهدُ عند الذَّائق النهِم حليتَ من عطل جيدَ البيان به في كل منتثرٍ في حُسْن منتظم بكل قول كريم أنتَ قائله تحيي القلوبَ وتحيي ميِت الهِمم فقلت ما قلت : ولكن لو سئلت أنت فما كان جوابك؟ فقلت له : إنه مفعول به باسم الفاعل الذي هو ( الناطقين ) ! فقال لي أحسنت وقد أجدت، ولو سألتك عن هذه الإضافة ( ميّت الهمم ) كيف تدعى في اللغة العربية، كيف يكون جوابك؟ فقلت له : إنها من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، أي الهمم الميتة ! فاهتز الشيخ طربا، فقال : إنك والله وارث سيبويه وأبي عمرو بن العلاء .. وقال - رحمه الله - كلاما طويلا لم يعلق بذهني إلا ما معناه : إن اللغة العربية إذا لم يحافظ على قواعدها، وخاصة أمام الخطر الهاجم عليها من العجمة السائدة المتفشية في سائر الأوساط، فقدت رواءها ورونقها، هذا إذا لم تنهر ولم تتقوض أركانها . ونصحني الشيخ بمحاولة استخراج القواعد العربية من القرآن الكريم عندما أتلوه بتأمل، وبذلك أحصل على فائدتين : الفهم والقواعد . في رحلة مع الشيخ اليجري من الزاوية إلى بني حالة ومرة أخرى استدعاه المجلس الاستشاري ليترأس وفدا من الطلبة إلى دار الشيخ ابن حالة وهو من عائلة اشتهرت منذ أمد طويل بخدمة الزاوية اليلولية في مجالات مختلفة خلفا عن سلف، وكان ذلك لتعزية العائلة في موت أحد كبارها. وعندما اقتربنا في طريقنا إلى زاوية ثموقرة سأل الشيخَ أحدُ الطلبة في آية قرآنية من سورة يوسف عليه السلام، فأجابه الشيخ ولكنه علّق الجواب على مراجعة أحد التفاسير عند الشيخ محمد الطاهر آيت علجت الذي قال عنه إنه تلميذه، ثم أثنى عليه الثناء الجم، وخاصة على شمائله وفضائله. ولما وصلنا إلى الزاوية استُقبلنا بحفاوة بالغة، ثم أدخلنا الشيخ الطاهر إلى مكتبته، وما إن أخذنا مجالسنا حتى طلب الشيخ السعيد من تلميذه الشيخ أحد التفاسير، فتيقن الشيخ من صحة جوابه وحمد الله، فقال -في لهجة قوية صارمة-: إنه كلام الله تعالى، يجب أن لا يُفتى فيه إلا عن دراية كاملة، وخبرة كاملة، ولا يحط من قيمة الإنسان -مهما كان وضعه العلمي، أن يقول لا أدري فيما لا يدري، أو يعد المستفتي بالمراجعة، وقد هان أمر الفتوى في وقتنا هذا إلى حد أن يُفتى أحد بكل جرأة في مسائل وقضايا حار فيها العلماء . وهذا درس في احترام الفتوى أخذناه من الشيخ كما أخذنا درسا في إجلال العلماء عن الشيخ آيت علجت، حيث رأيناه كيف بالغ في تقدير شيخه وإكرامه ! وفي بيت الشيخ (ابن حالة) تَلَوْنا أجزاءً من القرآن الكريم، ثم استمعنا إلى درس للشيخ غاب عن فكري جله، وبقيت أشياء قليلة عالقة بذهني أرويها غير مرتبة حسب الأهمية، وإنما أروي ما علِق بالذهن حسبما أتذكره. - أثار أحد أبناء العائلة الفرق بين الإبهام والغموض في الشعر العربي، وخاصة التعابير المصبوبة في قوالب المجاز، فقدم لنا الشيخ أبياتا شعرية في الشعر الواضح البيّن، الذي يُشبه الروضَ في وشي ألوانه، وإشراق أنواره، وهي لأبي العباس الناشئ يقول الشاعر: الشعر ما قوّمت زيغ صدوره وشددت بالتهذيب أسر متونه ورأبتَ بالإطناب شعبَ صدوعه وفتحت بالإعجاز عَوْرَ عيُونه وجمعتَ بين قريبه وبعيده ووصلتَ بين مُجمِّه ومَعينه وعهِدت منه لكل أمرٍ يقتضي شبَهًا به فقرنتَه بقرينه وأذكر للتاريخ أن الشيخ قد ألقى عدة أسئلة في اللغة والقواعد ولم يجب عنها سواي، مما جعله يطرب وينتشي ويُفيض في الحديث عني تشجيعا، وقال لهم: لا تنسوا أنه أستاذٌ بالزاوية اليلولية، يعين الأستاذ الشيخ الشرفاوي! ومما يحضرني في هذا المضمار، وإن كان مقتضبا مبتورا، أن السيد (ابن حالة) عرض مكتبته لمن يريد المطالعة منا، فجمعنا الشيخ، وقال: عليكم أن لا تضيّعوا وقتكم في القيل والقال، ها هو الشيخ ابن حالة يفتح مكتبتَهُ العامرة لكم فاستفيدوا، فدخلنا المكتبة التي حَوَت أمهات الكتب ونوادرها، وأذكر أن الطلبة ما إن دخلوا حتى أقبلوا على الكتب الكبيرة المزركشة، فناداهم الشيخ: على رسلكم يا أبنائي ليست العبرة بضخامة الكتب، ولا بجمالها ورونقها، وإنما العبرة بما فيها وبما فيكم من الاستعداد والقدرة على فهمها واستيعابها. وما زلت أذكر أنه وزَّع طائفة من الكتب على طائفة من الطلبة، وقال لهم : على كل واحد أن يلخص في النهاية ما قرأَ حتى يكون ذلك شبهَ امتحان له : فعند الامتحان يُكرَم المرء أو يُهان ! فأعطى واحدا ( جواهر الأدب ) وآخر ( عنوان الدراية ) وثالثا جزءًا من ( الإصابة ) ورابعا جزءًا من ( وحي القلم ) ، أما أنا فقد أعطاني ( مقدمة ابن خلدون ) . وحينما أذِنَت الشمس بالغروب، ولم يبق إلا وقت نتوضَّأ فيه لصلاة المغرب، طلب مني أن ألخص ما علِق بذهني مما قرأته في المقدمة، فلخصته بالعربية الفصيحة دون تردد أو تعثر أو تلعثم، إلا أنني أخطأت في كلمة حقها النصب على البدلية، فأفاض الشيخ في شكري، أما عن خطئي في إعراب البدل، فقال : أما خطؤه هذا فلكي لا تصيبُوه بالعين ! وأردف ذلك بقوله : فهل يَضُر ذا لسانٍ عربي فصيح إخلال بعثرة خفيفة مثل هذه؟ وهكذا كان هذا الشيخ السلفي الصالح يحرص على إفادتنا وتربيتنا وتشجيعنا، ويعلمنا كيف نستثمر الوقت، وكيف نعتبره جزءًا من حياتنا حتى في السفر! وكان الشيخ -رحمه الله- يتوقع لي مستقبلا زاهرا ولا أذكرُ أنني قابلته دون أن يشجعني على الدراسة، ويمازحني بنعت من النعوت الكبيرة لمشاهير أعلام الفكر العربي الإسلامي، فأحيانا يدعوني: الإمام الرازي، وأحيانا الطاهر الجزائري، وأحيانا ابن معط، وكنت حينما أسمع هذه الألقاب أو الأوصاف الكبيرة، أنتشي وأنتدي، وأشعر في أعماقي بزهو يغمرني، لثقتي فيه واعتقادي -لصغري- بأنه من الخاصة الذين يريهم الله ما لا يريه للعامة .