خلال تلك السنوات الأولى من مغامرة الصحافة المستقلة، وما حملته من حرية في الرأي والتعبير، كنا نختلسها كما اختلس أهل الأندلس طيبات الحياة من حولهم، حتى أن أحد شعرائهم ردد قائلا: ''إنما الحياة اختلاس''، كان للكتابة طعم خاص. انتشرت اللقاءات بين الأدباء. وكان الجدل حاضرا، والنقاشات لا تنتهي. وكانت الساحة الثقافية تعج بالتيارات الفكرية والأدبية. منها أصحاب التوجه الحداثي الذي انخرطت فيه، كما وجد أصحاب التوجه الإسلامي (الذين كانوا يدعون إلى إقامة الأدب الإسلامي لخدمة الدولة الإسلامية، وكثير من أنصار هذا التيار سرعان ما تحولوا إلى أنصار للحداثة، بعد أن كانوا يدعون إلى حرق روايات رشيد بوجدرة، ويرفعون كتب أنور الجندي بدلها. وكان في الساحة كذلك مثقفون وطنيون وبربريون، ويساريون، وماويون وبعثيون. الكل كان يدافع عن أفكاره، في زمن الأحلام والتحولات الكبرى. كان الكتاب الكبار يفتحون أبواب مكاتبهم أمامنا. شخصيا كنت أتردد على مجالس الطاهر وطار بالجاحظية بشارع ''بيشون''، قبل أن تتحول إلى مقرها الحالي بشارع رضا حوحو. وكنت ألتقي يوميا مع الطاهر جاووت بأسبوعية ''الجزائر الأحداث''، ثم بأسبوعية ''ريبتور''. كما كنت ألتقي عبد الحميد بن هدوفة في برج الكيفان، لما كان مديرا للمعهد الوطني للفنون الدرامية. كان بن هدوفة شخصا رائعا، متواضعا ولبقا. كان يقرأ ما أكتبه رغم حداثة سني. وذات مرة حاورته، رفقة الصديق عبد الكريم أوزغلة، مباشرة بعد صدور روايته ''غدا يوم جديد''، وكم كانت دهشتي كبيرة لما سمعته يستشهد بما كتبته ذلك اليوم بخصوص موضوع الحداثة. وقبل رحيله ببضعة أيام، زارني الروائي جيلالي خلاص بيومية ''الخبر''، وقال لي يجب أن نزور بن هدوفة في المستشفى. ولما ذهبنا لزيارته، وجدت عنده الروائي مرزاق بقطاش، وكانت تلك أول مرة ألتقي بهذا الروائي الكبير، وآخر مرة أشاهد فيها بن هدوفة. لم أحس يوما بأن كاتبا كبيرا مارس علي تعاليه. تعاملت مع كتاب الجيل الجديد، الذي جاء بعدي، بنفس الاحترام والتقدير. ففي مطلع التسعينيات كان يزورني بالجريدة كثير من الطلبة الجامعيين من المهتمين بالأدب، قراءة وكتابة. ومن بين تلك الزيارات التي لن أنساها وأحن إليها كثيرا، أذكر زيارة جمال نصر الله. كان جمال قارئا نهما، ونشرت له مقالات عديدة. كما أذكر الشاعرة والروائية سميرة قبلي. كنت أول من نشر لها قصائدها على صفحات جريدة ''الخبر''، وعمرها آنذاك لا يتعدى الخمسة عشر عاما، وكانت ترسل لي ما تكتبه عبر البريد. وأذكر كذلك محمد .ب، الذي كان يزورني رفقة زميل له، أرفض أن أذكر اسمه، نظرا لعدم اعترافه بالجميل. نشرت له عدة قصص قصيرة، وكان يعجبني أسلوبه المتأثر بحنا مينة. كما نشرت لزميله عدة قصائد، وكنت أول من فتح له باب النشر، وشجعه على الكتابة، لكنه تنكر لهذا الجميل، وتصرف معي تصرفا غير لائق، بعد أن نشرت روايتي الثانية ''مرايا الخوف''. ويبدو أنني تحولت في السنوات الأخيرة إلى عدو له، حيث لا يفوت أي ظهور إعلامي إلا ويفتح النار علي. وتلك مسألة أخرى لا أريد أن أستفيض فيها، وما تناولتها إلا لكي أبرز جحود بعض الكتاب عندنا، وعدم احترامهم لمن ساعدهم في بداية دربهم الأدبي. لقد نشرت لكثير من الكتاب، وساهمت في تألق الكثير كذلك، خصصت لهم أركانا أسبوعية، وكانوا سعداء بذلك، حينما كنت أشرف على الصفحة الثقافية ل''الخبر'' وملحقها الثقافي مدة ثمانية عشر عاما. لكني دائما كنت ألقى المعاملات السيئة، وهذا سؤال ما يزال يحيرني إلى اليوم.. لماذا يملك بعض مثقفينا ذاكرة ضيقة، ولماذا هم ناكرون للجميل؟ لماذا يستلذون بتحطيم صاحب الفضل عليهم، ومن سبقهم في التجربة والكتابة؟ هل أحرقوا قصاصات قصائدهم الأولى التي نشرتها لهم؟ هل انتزعوها من ذاكرتهم، بعد أن كبروا واشتهروا؟ هل كانوا يستعملونني حينها لنشر بواكير أعمالهم، ثم تخلوا عني، وبحثوا عن ناشرين ينشرون لهم كتبهم؟ هذا جزء من خاطرة، أستخلص منها أن نكران الجميل لا يبني للأدب. [email protected]