وصلنا إلى بيت مضيفنا السيد عاصم محمد، المشهور بكنية أبو سيزر، في حي باب الزوّار بالعاصمة قبيل الإفطار بلحظات. وما إن فُتح الباب، سبق خطواته إلينا عبق التوابل المنبعثة من الأطباق الرمضانية التي زيّنتها أشهى المأكولات السورية بذوق شركسي. في قاعة الاستقبال حيث جلسنا، كان الابن البكر سيزر جالسا محدقا ببصره في شاشة التلفزيون، يتابع خبرا عن إلقاء القبض على عدد من ''الشبيحة''، مع شقيقته الصغرى سيسيليا. تبتسم والدته وأنا آخذ مكاني بجانبها ابتسامة لم تخف مسحة الحزن التي ارتسمت على وجهها: ''هذه يومياتنا منذ أن غادرنا ديارنا، نصحو وننام على أخبار الحرب في سوريا، ونحن ننتظر سقوط النظام''. يرفع الآذان، فنجلس حول المائدة، فيما كانت سيسيليا وسيزر قد سبقانا في الجلوس إلى طاولة صغيرة بجانبنا، وامتدت يد سيزر إلى كأس الماء حتى قبل أن يرفع الآذان.. وأنا أسأله كم يوما صام منذ بداية الشهر، أجابني مباشرة دون تفكير وبحكمة الكبار: ''الحمد لله، أصوم رمضان لثالث مرة، فلم أفطر يوما منذ أن كنت في السادسة، السر في برودة الأعصاب والصبر''. تقول السيدة أم سيزر: ''إن شاء الله يعجبك أكلنا، هو مزيج من الأكل السوري والشركسي، لازلنا نحافظ على عادة الأجداد، رغم أننا نعتبر أنفسنا سوريين مائة بالمائة''. وراحت ربة البيت تعرّفني بأسماء الأطباق المحضّرة، هذه شيبس باستا، المفروض أنها تحضر بالبرغل، لكن عوّضته بالفريك، أما هذا الأرز بالدجاج فاسمه الكبسة، لكن السمك من عندكم. وعلى مائدة الإفطار، كان جلّ حديثنا عن الأوضاع في سوريا، فعائلتا أبو سيزر وزوجته مازالتا في بلاد الشام، هربت من القصف من حمص إلى دمشق، وهناك لم تسلم أيضا، إذ تنقلت بين عدد من الأحياء هربا من انتقال فتيل الحرب. يقول أبو سيزر: ''رغم أننا نعاني الأمرّين ونحن نترقب أي خبر عن سلامة أهلنا، ورغم صعوبة الاتصال، فزوجتي لم تكلم أمها منذ شهرين، وابن عمها استشهد منذ أيام، إلا أن خبر اقتراب سقوط الظالم يجعلنا نأمل خيرا، فدم أهلنا ليس أغلى من دماء من استشهدوا''. استسمحت العائلة لصلاة المغرب بعد أن أخذنا الحديث على المائدة، دون أن نأكل الكثير، وأنا أصلي في غرفة الأطفال، كان سيزر وشقيقته منهمكين في لعبة فيديو على الكمبيوتر، فراح يقول لشقيقته هذه اللعبة اسمها ''ثوار كونترا''.. فكل أفراد العائلة مندمجون مع الثورة. ووصل رب العائلة إلى الجزائر قبل سنتين، غير أنه اضطر لإحضار عائلته في شهر ديسمبر الماضي، بعد أن دمّرت مدينتهم حمص. ورغم صعوبة البعد عن الأهل والديار، إلا أن العائلة سرعان ما اندمجت مع الجزائريين. تقول أم سيزر: ''الجزائريون أغرقونا بكرمهم.. تصوّري أن جارنا لما عرف أننا ننتظر توصيل بيتنا بشبكة الأنترنت، عرض علينا إمدادنا ب''الويفي''، ورفض حتى أن نقدّم له المقابل''. وتقضي العائلة جلّ وقتها على الأنترنت للاطلاع على مستجدات الوضع في سوريا، لكن ليس للاتصال بالعائلة: ''فالحديث بحُرية على الأنترنت في سوريا من سابع المستحيلات''.. تقول أم سيزر. وراحت محدثتنا تتذكر معاناة رمضان الماضي، مواصلة: ''صحيح أن أول يوم في رمضان كان صعبا، ولم نفطر في بيت حماتي كالعادة، لكننا عشنا الجحيم السنة الماضية، كان يستحيل الخروج لصلاة الصبح أو التراويح مع القناصة''. أما عن يومياتها في الجزائر، فتقضي الزوجة جلّ وقتها في البيت، وتعوّض غيابها عن وظيفتها، فهي خرّيجة آداب، بتخصيص جلّ وقتها لرعاية أبنائها، وتحاول تعويض البعد عن الأهل بلقاء عائلات الجالية السورية. تركنا بيت عائلة أبو سيزر وهو يستعد وابنه لصلاة التراويح، وأمنيتهم الوحيدة أن يحلّ عيد الفطر وقد سقط النظام، ليعود الياسمين الدمشقي يعطّر من جديد أجواء بلاد الشام.