إن أوجاع آنيتنا كثيرة ومتعدّدة، ولكن ما أجده يحوم حول ما أرمي إليه في هذه الأسطر؛ هو إصرار الكثير من أهل الاختصاص على القول بأن: ''..نصوصنا السردية المبدعة في فترة المحنة الكبرى إما كتبت على عجل، وإما موغلة في السيرة الذاتية، وإما لا تتملّك ناصية اللغة السردية الراقية.. أو أن أصحابها لم يكونوا من الكتاب الكبار.. (ولعل الإمكانية الأخيرة هي مربط الفرس..). وفي كل الأحوال رأى هؤلاء بأن تلك النصوص خلو من الإبداع الفني الراقي.. ويجب إغفالها من الأدب الجزائري.. ورغبة منّي في طرح المسألة تحت طائلة المسطرة النقدية الرصينة، وما أراه استنادا إلى جوهر المسألة الإبداعية السردية وعمقها الأصيل، ورغبة مني في ردّ الاعتبار لنصوص أدبائنا الشباب، وبخاصة الذين رفضوا الصمت، وأبوا الخروج من الوطن، ثمّ أرادوا أن يكونوا شاهدين على مسيرة هذه الأمة تحت وابل الآلام والمعاناة، وربما، أيضا ليبرزوا، كجزء آخر من معالمها المتعدّدة والمتنوّعة، أحاول، دائما، قراءة العديد من تلك النصوص السردية، على الرغم من أنني كنت قد قرأتها من قبل، وما سأقدّمه في هذه الأسطر يدخل ضمن إعادة القراءة هذه. وكان أول نص سردي ظهر في هذا المضمار نص ''الانزلاق'' للروائي حميد عبد القادر، الذي ظهر سنة 1998، وهي السنة التي لا يجهل أحد من الجزائريين كيف كانت الحالة النفسية لكل الجزائريين تحت وطأة ما عاشوه. وتبدأ وقائع هذه الرواية هكذا: ''..الحضور الكلي والمهوس للموت يفجعك، يرميك بين مخالب الهلاك، وتستيقظ مذعورا، وقد رأيت في كابوس مخيف، أن رأسك انتزع من جسدك بضربة خنجر صدئ..''، ليبرز تحوّل رهيب في دواخل متلقّي النصّ من المعطى ''التذوّقي'' للنصّ إلى معطى آخر مناقض له، وهو المعطى ''الفجائعي'' له وللذات القارئة معا، ومن أول وهلة، تنبئ هذه الذات بإحاطة شاملة لمعاينة مكامن الخوف والرعب اللذين كان يعايشهما شاهد النص ''عبد اللّه الهامل''، لكن معايشته تلك لم تنسج، سرديا، بمعزل عن الوجع المتفشّي بين خلايا المجتمع؛ بعضها قاتل وبعضها الآخر مقتول، أفراد مطاردون وآخرون مؤجّلة مطاردتهم إلى حين، فئات غادرت الوطن، وأخرى عانقت نصفه المدحرجة رأسه في مكان ما.. وسط شعاب وفيافي هذا الوطن.. وتحت تعقّد وتداخل المنسج السردي للنصّ وإكبارا لتعالياته الجمالية سأختصر أسطري هذه على جزء يسير من تلك المتعاليات، وذلك الجزء هو اسم الشخصية الشاهدة ''عبد اللّه الهامل''، وما يتحاور مع منجزاتها الحكائية داخل نص ''الانزلاق''. بدءًا، تجد ذائقة القارئ تشظّيا رهيبا للاسم في شقّيه ''الاسمي'' عبد اللّه، وفي شقّه ''اللقبي'' أو اسم الشهرة ''الهامل''، حيث نجد أن اسم ''عبد اللّه'' متخم بالكثير من الدلالات والإيحاءات، بعضها عقدي ديني، والذي يقصد به في العموم كل إنسان، على اعتبار العقيدة الإسلامية التي ترى كل إنسان هو ''عبد للّه'' وذلك قصد نفي الندّية أو البنوّة عن اللّه سبحانه وتعالى.. كما نجد بعضها الآخر يأخذ مقامة التعيين والتحديد والتشخيص عند تسمية كثير من الشخوص باسم ''عبد اللّه'' وبخاصة، نظرا لكثرة تداول هذا الإسم، في الجزائر. ولعلّ توظيفه في هذا النصّ، وفي الكوّة الزمنية التي تحدث فيها وقائع الانزلاق، ينبغي له أن يضفي على هالة النصّ وإمكاناته الافتراضية كثيرا من التخييل وزخما دلاليا رهيبا. أما اللقب أو الكنية ''الهامل'' فأجدها أكثر إغراءً بانفلات دلالي عجائبي، وهو يمنح هكذا، بقصد أم من دونه، لشاب صنع أجداده وآباؤه مجد بلدة بني مزغنة (في دلالتها الشمولية شرقا وغربا شمالا وجنوبا). وأجد بعض هذا الانفلات الدلالي، في هذه الأسطر العجلى، في الفقرة القائلة ''.. طويت الرسالة. وضعتها في جيبك. خرجت من مكتبك حاملا صوت الموت في داخلك.. وقد أضيف لليأس الذي يملأ روحك، اليأس والموت، وقلب (متهدّم)، خاتمة تعيسة لحياة مصلوبة... ص 34''. ليتجلّى العمق الدلالي لتجلّيات ''الإهمال'' في أجل معانيه، حين يطوي الرسالة (..التي أفهمها هنا إيحاءً على أنها رسالة أول نوفمبر..)، ويغادر مكتبه (عرين الأمان) إلى الفضاء المتّسع (المفترض وهو بلدة بني مزغنة..)، وهو حاملا لقائمة طويلة من المصطلحات الرهيبة؛ الموت، اليأس، القلب المحطم، الحياة المصلوبة، المفاجأة المرعبة، والفوضى العارمة. لتشعر الذائقة القارئة وكأن هذا الكيان، الذي يسمى ''عبد اللّه''، لا أهمية له في هذه الكينونة (المزغنية)، وأنه مهمل من كلّ هذا الفضاء المزغني حتى انتفت كلّ المؤسّسات وكلّ الأطر التي من المفترض أن توفّر الأمن والأمان في بلدة بني مزغنة. ووفق هذا النبش في ما لم تغرق ''الانزلاق'' في توصيفه، ولكن يلمح إليه إيحاء، أرى بأن بعض المبدعين الشباب للنصّ الروائي الجزائري قد اصطنعوا لأنفسهم (آلية) ميكانيزم سردي يمزج ما بين فاجعة الآنية (وهي خلو من غبن وأوحال زمنية الاستدمار)، وبين المشتهى في إنجاز وتشكيل ديمومة (برجسونية) كان من المفترض أن تحقّقها ستة وعشرون سنة من استرجاع السيادة الوطنية. وأعتقد أن هذا كفيل بتقدير مشروع روائي جزائري معاصر يترصد ذائقة ''عبد اللّه الهامل'' رفقة سكان البلدة، وفق استراتيجية تتناص فيها المسوّقات السردية المؤتلف حولها مع المساق الوجودي المفترض، ضمن تآزر كينونة المجتمع والسلطة والمتنبآت بغية تجاوز المآل التالي: ''..ضيقة هي غرفتك، ونفسك مخنوقة، الكآبة سيل كثيف، وجهودك لتجاوز الحوف منكسرة..''، ص72. كما أتصوّر أن مشروعا كهذا يجلب معه، في هديره، بعض الزوائد وبعض مخلفات ونتوءات أزمنة ما، كما إنه قد يثير الكثير من مخزنات اللاوعي. لكنه ستبقى، دون شكّ، الكثير من أمثال نصوص ''الانزلاق'' راسخة القدم وسابقة الرجم في توصيف حالةٍ من كينونة الأمّة يعجز عن ملاحقتها وملاحظتها، دون شكّ أيضا، المؤرّخون وعلماء الاجتماع وعلماء النفس، وسيعقلها، بقوة.. بقوة.. السياسيون.. وتلك هي عبقرية السرد، وفي ذلك فاليتمايز ''السردانيون''.