ظلّت الفكرة تراوح مكانها، وظلّ الحلُم يراود كلّ من يتطلّع إلى غد مشرق لجزائر تستحق أن تكون أفضل، كما الدول المطلّة على الحوض المتوسّط، مثل البلدان التي تكتنز ما حباها الله من الثروات، شأنها شأن الأراضي التي تبتسم سهولها وتزهر هضابها وتقف بكبرياء جبالها، أما صحراؤها فباطنها الرحمة وظاهرها الواحات. نعم إنها الجزائر فسيفساء يعجز الرسّام على أن يحاكيها.. وقصيدة نسي الخليل وحتى الأخفش أن يدرجا بحرها الجميل! عاصمتنا اليوم ليست كما كانت بالأمس، يتكدّس ملايين البشر في رقعة صغيرة جدا، فانتشر التلوّث، واستهلك ما بقي من مساحة خضراء، ولم يبق من الجزائرالبيضاء غير الاسم، حتى ''أولاد فايت'' فات المسؤولين أن يحافظوا على نسيمها العليل، فاختاروها مكانا لأكبر مفرغة عمومية.. لقد ضاقت الأرض بما رحبت، وزادت العشرية السوداء الأمر سوءا، ففرّ الناس بجلدهم من مناطق عديدة وانتشروا في أطراف العاصمة وأعماقها.. كما زحف الإسمنت على متيجة، وعبثا نحاول بإنشاء ''سيدي عبد الله'' مدينة جديدة ليعوّض الأزيز تغريد الحساسين وتقضي الآلة على ما تبقّى من طبيعة عذراء.. أردنا أن نواسي سيدي عبد الله فاخترنا ''بوينان'' قلب المتيجة، إنه التفكير فيما بعد البترول: الذهب الأسود بإبادة الذهب الأخضر!! ورغم كل المحاولات بتوسيع الطرقات، وحفر الأنفاق، واختيار الطرق الاجتنابية، إلا أن الماكث في الزحام يعدّ شيبات رأسه في ''لاكوت''، أو في ''وادي الرمّان''، أو عند ''عين الله'' أو.. قصة لا تنتهي. أمام هذه المعاناة التي يكابدها العاصمي، والقادم إلى العاصمة للعلاج، أو للسفر، أو للعمل، أو لأي انشغال آخر، بات من الجلي أن نترك العاصمة تستمع ل''بوغزول''، حين ترحّب بها والحلُم من سبعينيات القرن الماضي.. ليست بوغزول موقعا استراتيجيا فحسب، يربط الشمال بالجنوب، والشرق بالغرب، فلعلّك قرأت في أول مفترق طرق يؤدّي إليها لافتات توجّهك صوبا إلى الجلفة والأغواط، وغربا إلى تيارت ووهران، وشرقا نحو المسيلة وسطيف، وأنت القادم لتوّك من العاصمة! ليست بوغزول أرضا مستوية فقط، يتراءى لك فيها الأفق من بعيد يرحّب بك أناسها الطيّبون، ويشعرونك بالأمان حيث حللت أو نزلت.. ليست بوغزول بحيرة فقط تستقبل الطيور المهاجرة وتحتفظ برطوبة أرضها إلى هناك، حيث ''الشهبونية'' الأرض الخصبة، أو هناك حيث البيرين البلاد الرحبة، أو ثمّة عين وسّارة بلاد المياه العذبة، أو قصر البخاري بجبالها ووديانها التي سقت الأراضي العطشى.. ليست بوغزول مكانا للاستجمام والراحة وأخذ كوب من الشاي في رحلة طويلة وحسب.. ليست بوغزول مشروع وزير أو شخص فقط، بل هي مشروع كل من يفكّر في الخير لهذا الوطن، كائنا ما كان.. ألم نتعلّم في مطلع قرننا أن العالم ينشد تنمية مستدامة تستهدف حق الأجيال القادمة، وأنّ الوصول إلى التنمية يكون عبر إنشاء المدن التي تستجيب للتحديات، وها هي بوغزول كذلك.. لعلها تحتاج إلى إرادة سياسية أي نعم، لكنها تحتاج إلى إيمان الجزائريين، كل الجزائريين بالفكرة، بعيدا عن الجهوية التي تنخر جسد الوطن وتستبدل الكفاءة بالانتماء والولاء.. ليس الإنسان مضطرا لأن يذكر بأن العديد من الدول أخذت نظام العاصمتين، الاقتصادية والسياسية، لكن التحدّيات العالمية أبرزت أن توزيع القدرات إنما هو تقوية لها، فلدى أعظم القوى العالمية نجد هذا التجسيد، كما نجده لدى أبناء القارة السمراء، فنيجيريا، وهي إحدى دول ''النيباد'' رفقة الجزائر، لها مدينتان قطبان: أبوجا ولاغوس.. لعلّ البعض يفكّر في إسناد الدور لواحدة من كبريات المدن الجزائرية، لكن ذلك الحل، لما فيه من اعتبارات سابقة، يجعله يراوح مكانه.. وتبقى المدن، لاسيما في قلبها، تعاني المشكلات ذاتها من زحام وتلوّث وقدم شبكات توصيل وغير ذلك، ما يجعل الحلّ يكمن في استراتيجية تأخذ بالحسبان الانطلاق من الأساس، بإنشاء الطرقات قبل بناء السكنات، وحماية المساحات الخضراء، ونوعية الأرض المضادة للزلازل وغير ذلك.. يحضرني هنا قول محمّد إقبال ''لن يدرك العالم الإسلامي التطوّر إلاّ بقلب شرقي وعقل غربي''.. وربما أضفنا إليه إرادة جزائرية لا تتغنّى بالماضي فقط، لكنها تتطلّع إلى المستقبل، بعيدا عن الأنانية التي تريد الرّخاء للحظة، أمّا المستقبل فهو بيد الله.. أي نعم لكن ماذا ستقول لنا الأجيال القادمة ونحن الذين أسّسنا وزارة الاستشراف؟ ربما يحتاج المرء، في آخر المطاف، إلى أن يغمض عينيه وهو يرى ناطحات السّحاب تتوسّط بوغزول.. وعلى يمينه ''المارينا'' وقد احتضنت أرقى الحفلات الموسيقية، بجلسة عائلية كلّها أمان، وهناك في البعيد أكبر جامعة للتكنولوجيا، وقربها معهد الأمير عبد القادر للدراسات الإنسانية، وهو باعث الدولة الجزائرية برأي الأستاذ مولود قاسم نايت بلقاسم، ولديها مطار يجاري مطار لندن، يتصل بأقوى شبكة نقل للسكك الحديدية في الاتجاهات الأربعة، وتمرّ بملعب ضخم لا يعاني عشبه من أي اهتلاكات، وفي مدرّجاته حيث 120 ألف متفرّج نسمع الأهازيج فرحا بتأهّل المنتخب الجزائري لمونديال قطر 2022، وربما احتضن مونديال ,2026. أعرف أنها مجرّد أحلام ساورت الكثيرين مثلي، لكن من يدري لعلّ الأمل يتحقّق، ولو بكلمة كما ورد عن العقّاد: اكتب لا تتردّد.. اكتب فالكلمة تتوقّد.. اكتب فالكلمة تتجسّد.. في الحافلة مرورا بالطريق الوطني رقم1 بوغزول