الدكتور جوادي: ''الإعاقة تصيب الإرادة والعقل قبل الجسد'' يقدّر عددهم بمليون كفيف، لكنهم يعانون في صمت وبعيدا عن أنظار المبصرين، منهم من اختار الانزواء داخل المنزل، والقليل فقط الذين أصرّوا على مزاحمة المبصرين في كل مكان، حتى وصلوا إلى أعلى المراتب العلمية والمهنية. حقق المكفوفون، بتحدّياتهم وصبرهم، بعد سنوات من النضال، أحلامهم وطموحاتهم، وتمكنوا من إثبات وجودهم وتقديم كفاءتهم للمجتمع، هؤلاء الذين أصبحوا، اليوم، دكاترة جامعيين وأساتذة ومتخصصين في تعليم فئتهم القراءة على تقنية البراي، لم يحتاجوا إلا لدفعة وتشجيع بسيط من طرف أوليائهم ليتمكنوا من القيام بما عجز عنه الأشخاص المبصرون. يقول الدكتور محمد نجيب جوادي الذي يلقي محاضراته في مادة الفلسفة بجامعة الجزائر 2 وهو كفيف، إن ''النعمة التي يعيشها الإنسان قد لا يصل إلى درجة تقديرها إلا عندما يرى غيره وهم يبجلونها، رغم النقص الذي يعانون منه''، ملفتا إلى أن الإعاقة الجسمانية لا يمكن أن تمنع يوما من الوصول إلى تحقيق الهدف، إلا إذا كان الشخص مصابا بإحباط في نفسيته ومكبّلا بإحساس ''العجز''. ورغم ذلك، يطرح الدكتور مشكلة عدم التعاطي الإيجابي للوالدين مع أبنائهم المصابين بالعجز، مهما كانت نوعيته، حيث لا يعملون على مساعدتهم للقيام بالخطوات الأولى في حياتهم باتجاه الاعتماد على النفسي، والتخلي النهائي عن مساعدة الآخرين. من الظلمات إلى النور الدكتور جوادي بدأ دراسته في المرحلة الابتدائية بوتيرة متقطعة، بعدما فقد بصره في سن ال11 سنة، عندما كان بصدد الانتقال إلى السنة السادسة ابتدائي. بعدها، اضطر إلى مواصلة دراسته في البيت العائلي بمساعدة إخوته وعمه الذي حرص على تحفيظه القرآن الكريم، بالموازاة مع حضوره جلسات للعلاج، الأمر الذي جعل تردّده على المدرسة متذبذبا. محمد الذي كان طموحه كبيرا آنذاك في التنقل إلى مصر ليقوم بإجراء امتحان تحديد المستوى، هذا الأخير الذي مكنه من دخول السنة الأولى ثانوي بعد دراسته في جامعة الأزهر. بعد سنتين، تمكن من الحصول على شهادة الثانوية العامة ودخول الجامعة من أبوابها الواسعة، حيث اختار الدكتور الكفيف تخصص الفلسفة والعقيدة، وبقي هناك لاستكمال دراسته في إطار منحة خاصة بالدراسات الجامعية. تعلم اللغة الإنجليزية كان تحدّيا بالنسبة لمحمد الذي واظب على دراستها في الجزائر، وهو الأمر الذي ساعده، كما قال، على الدراسة في مصر. بعد تخرّجه من الجامعة وتحصله على شهادة الليسانس في علوم الفلسفة والعقيدة، تقدم للمشاركة في مسابقة الماجستير بجامعة الجزائر ضمن المعهد العالي لأصول الدين، وهو ما مكنه من القيام بأول خطوة في عالم التدريس، حيث باشر تقديم أول الدروس كأستاذ مساعد في .1993 وأسس أسرته، حيث تزوّج من طبيبة أسنان وأنجب، وواصل دراساته حتى تحصل على الدكتوراه في .2010 اليأس.. بداية الفشل محدثنا يؤكد أن اليأس هو الإعاقة الوحيدة التي يمكن أن تمنع الإنسان من الوصول إلى هدفه، ذلك أن المواصلة وتحدي الصعوبات هو الأمر الوحيد الذي يمكن أن يساعد الكفيف على تخطي إعاقته، مضيفا: ''العلم مصدر تبوء المركز الاجتماعي، وينبغي التضحية من أجل الحصول على أكبر قدر من المعارف. وأؤكد لجميع المكفوفين وغير المكفوفين أن من يريد الوصول إلى هدفه، ينبغي أن تكون له الإرادة اللازمة للصبر عليه''. احترام عن جدارة و استحقاق أمثال الدكتور محمد كثيرون ممن يستحقون الثناء والتثمين، لجهودهم المضاعفة التي قاموا بها في سبيل الوصول إلى مراكز علمية هامة. فخلافي عمر الذي يعمل حاليا كمتصرف إداري بمصلحة البيداغوجيا في جامعة الجزائر 1، كان مصرّا بعدما فقد بصره وهو لا يتعدى 10 سنوات على مواصلة دراسته آنذاك. وعند وصوله الصف الرابع، تعرّض عمر لحمى أفقدته بصره، ليقرّر مواصلة الدراسة شفويا إلى أن تحصل على شهادة التعليم الابتدائي. بعدها، تنقل عمر إلى مدرسة الشبان المكفوفين في بلدية العاشور، حيث نجح في الحصول على شهادة التعليم المتوسط. ويقول عمر إن الخطأ ممنوع، وإعادة السنة والاستسلام للفشل في مدرسة العاشور ممنوع أيضا، ذلك أنه سيكلف المكفوف فقدان أمله الأخير في الحياة. انتقل عمر إلى الثانوية وتحصل على شهادة البكالوريا في الآداب سنة 1990، وقرّر دخول تخصص الترجمة من سنة 1990 إلى سنة 1994، حيث تحصل على شهادة الليسانس، وباشر أول وظيفة له في 1997 والتي يزاولها إلى غاية اليوم. وبالموازاة مع عمله، قرّر عمر دراسة تخصص الحقوق منذ 1999، حيث تحصل على شهادة الليسانس في الحقوق سنة 2002، وباشر استكمال دراسته للحصول على شهادة الكفاءة المهنية في المحاماة. يقول عمر: ''عملت 16 سنة متصرفا إداريا بالجامعة، وواجهت مختلف صعوبات التحصيل العلمي، في ظل غياب المراجع الخاصة بتقنية البراي، لكنني أطمح اليوم إلى ممارسة مهنة المحاماة''. هذه المهنة التي يرى فيها عمر فرصة كبيرة لإثبات نفسه، أكد أنها كانت مبتغاه للوصول إلى تحقيق طموحاته، حيث وجه نصيحته للمكفوفين بأنه ''لا سلاح لإثبات وجودهم في المجتمع إلا العلم''. ودعا من جانبه الأولياء إلى مساعدة أبنائهم المكفوفين على الدراسة، حيث حمّلهم مسؤولية نجاح هؤلاء في الوصول إلى مراكز هامة، وتحدث عن وجود بعض الأولياء ممن يخافون على أبنائهم ويضيّعون عليهم بذلك التحصيل العلمي، وخاطب الأولياء قائلا: ''اتركوا أبناءكم يتعبون ليحصدوا ثمن تعبهم باكرا''. فيما أكد أن البصيرين في نعمة كبيرة، قلما يعرفون قيمتها أو كيفية استغلالها في حياتهم. وعلى نفس الطريق، فقد الأستاذ مطاري دحمان، المكلف بفضاء المكفوفين بالمكتبة الوطنية في الحامة بالعاصمة، البصر وعمره لا يتجاوز السنتين، حيث زاول دراسته بمدرسة المكفوفين في العاشور، ثم انتقل إلى ثانوية بعين بسام، محلّ إقامته، ليتحصل سنة 1990 على شهادة البكالوريا في قسم الرياضيات، حيث تمكن المكفوفون آنذاك من التحصل على نسبة 20 في المائة من معدّل النجاح العام لكافة الفئات، و100 بالمائة في أوساط المكفوفين، ليتمكن سنة 1994 من التحصل على شهادة الليسانس في العلوم الاقتصادية، واجه بعدها 3 سنوات كاملة من البطالة، إلى أن استطاع في ماي 1997 الحصول على عمل في المكتبة الوطنية بالحامة. تحدث العم دحمان عن الصعوبات الكبيرة التي واجهها، في ظل غياب أي إمكانية للتعلم، وغياب المكتبات التي تحتوي على تقنية البراي، وعدم توفر وسائل النقل المدرسي أو الجامعي الخاصة بهذه الفئة، وأكد أن جيل اليوم من المكفوفين يحظى بالإمكانيات اللازمة للدراسة. لذا، ينبغي عليه الاندماج في المجتمع في وقت مبكر ''لأن الاندماج، في وقت مبكر، يتيح الإمكانية أكثر للتفاعل''. ويتنقل الأستاذ دحمان للعمل من بلدية الرغاية إلى بلدية محمد بلوزداد، يوميا. ورغم ذلك، يؤكد أنه لا يشعر بالتعب، حيث يواظب بالموازاة مع ذلك على المشاركة في مسابقة الماجستير سنويا للتمكن من مواصلة دراسته. استطاع الأساتذة أن يبرهنوا لنظرائهم أنه لا شيء مستحيل في هذه الحياة، بعدما نجحوا في تحقيق طموحاتهم، هذه النجاحات التي كانت دفعا قويا لفطيمة ملاك ونظيراتها، اللواتي التقت بهن ''الخبر'' بباحة جامعة بوزريعة في العاصمة، حيث يلتقين في حلقات إلى جانب مرافقاتهن لتبادل أطراف الحديث والنقاش حول مواضيع الدروس، وقد استطعن ببراعة الاندماج في الوسط الجامعي. فطيمة ورفيقاتها.. قصص عنوانها النجاح فطيمة طالبة في السنة الرابعة بقسم علم النفس العيادي، أصيبت وهي ابنة 6 سنوات بالعمى، اجتهدت كثيرا للحصول على شهادة التعليم المتوسط بمدرسة العاشور، قبل أن تنتقل إلى مدينة القليعة لاستكمال دراستها في الثانوية. تروي فطيمة ل''الخبر'' أنها واجهت عدّة صعوبات في إنجاز البحوث العلمية، خاصة خلال السنة الأخيرة من الدراسة التي يتوجب خلالها إعداد مذكرة التخرّج، لكنها ورغم ذلك صمدت، بفضل مساعدة أفراد عائلتها وصديقتها الحميمة التي كانت تسميها ''عينيّ''، لأنها كانت تساعدها على قراءة المراجع التي تعتمد تقنية البراي. وعلى غرارها، كانت هاجر مهدي، 25 سنة، والتي بدأت الدراسة في سن السابعة، بعدما فقدت بصرها وهي ذات 7 أشهر، إلى أن تمكنت من دخول الثانوية في البليدة، وتدرس اللغة العربية بجامعة الجزائر .2 ورغم الصعوبات التي واجهتها، تقول هاجر ببشاشة وخفة ظل، إن ''الإرادة ومساعدة العائلة والمقرّبين مكّنتها من النجاح''. وأضافت ''الإعاقة ليست عندما لا يرى الإنسان أو لا يمشي أو لا يتكلم، الإعاقة تكمن في غياب الإرادة وعدم القدرة على وضع هدف في الحياة. الإعاقة إعاقة التفكير، ينبغي أن يكون لكل شخص تحدّ في الحياة ليصل إلى تحقيق طموحه''. وترى تسنيم البيطار، سنة رابعة علم النفس العيادي، أن ذوي الاحتياجات الخاصة ينبغي عليهم أن يثابروا لتحقيق النجاحات، الأمر الذي من شأنه نزع النظرة الدونية والصورة السلبية التي يرسمها الآخرون عنهم بكونهم ''عاجزين''، ورافعت محدثتنا لصالح تمكين فئة ذوي الاحتياجات الخاصة من الإمكانيات التي تتيح لهم التفوّق مادامت العزيمة متوفرة. تسنيم التي بدأت دراستها في الأردن ثم عادت إلى الجزائر في سن ال16، تدرس اليوم بالجامعة قسم علم النفس العيادي، وهي ترى أن تعميم وسائل الإعلام الآلي بتقنية البراي إمكانية حديثة ستفتح لها آفاقا جديدة، إذا تم التكوين الجيّد والمتابعة، حيث سيكون فضاء للقاء وتبادل النقاش ''وسيمكننا من الإحساس بأننا أشخاص عاديون. مراعاة الحالة الصحية لنا تهمنا، ونتمنى أن لا يجد الجيل الذي بعدنا نفس المعاناة التي مررنا بها''. ووجهت تسنيم نصيحتها للأصحاء، بضرورة عدم التفريط فيما يتمتعون به من نِعَمٍ.
يعتمد على تحويل المعلومة المرئية إلى سمعية افتتاح أول مركز إعلام آلي للمكفوفين بجامعة الجزائر تم تدشين فضاء الإعلام الآلي الخاص بالمكفوفين بجامعة الجزائر 2 في بوزريعة، والذي سيمكّن كافة الطلبة والدكاترة المتواجدين بالجامعات الجزائرية عبر القطر الوطني، من الاستفادة من خدمة هذا الفضاء الذي تم تزويده بتجهيزات حديثة تعمل بتقنية البراي. وأضاف رئيس الجامعة، صالح خنور، أن المساعي متواصلة من أجل توسيع هذا الإنجاز إلى الفئات الأخرى من ذوي الاحتياجات الخاصة، مؤكدة على ترحيب الجامعة بكل المبادرات التي تهدف إلى مساعدة مثل هذه الفئات.