إنّ الله سبحانه وتعالى خلق الزّمان والمكان، وفضّل بعض الأمكنة على بعض، كما فضّل المدينةالمنورة على ساكنها، أفضل الصّلاة والتّسليم، ومكّة المكرّمة وبيت المقدس على سائر البقاع، وفضّل يوم الجمعة على سائر الأيّام. فضَّل الله تعالى أشهُر الحُرُم وجعل لها خصوصية، كما قال تعالى: {إنّ عِدَّة الشُهور عند الله اثنَا عشر شهرًا في كتاب الله يومَ خَلَق السّموات والأرض منها أربعة حُرُم ذلك الدّين القَيِّم فلا تَظلموا فيهنّ أنفُسَكم وقاتِلوا المشركين كافَّة كما يُقاتلونَكُم كافّة واعلموا أنّ الله مع المتّقين}. فقوله تعالى: ''منها أربعة حُرم''، إشارة إلى شهر رجب الفرد وشهر ذي القِعدة وذي الحجّة ومُحرَّم. ولشهر رجب أكثر من اسم، كما نقل ذلك الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتابه ''تبيين العجب لما ورد في شهر رجب''. وسمّي رجب لأنّه مرجّب، أي معظّم ومشرّف، ويسمّى بشهر ''رجم'' لأنّه ترجم فيه الشّياطين بالكفّ عن القتال فيه، ويسمّى بالشهر ''الأصب'' لأنّه تُصبُّ فيه الخيرات ويكثر فيه عمل الخير، ويسمّى ''الأصمّ'' لأنّك لا تسمع قعقعة السيوف والرماح. ويُستحبّ الإكثار من الصّيام فيه، كما ورد في الحديث الصحيح الذي يرويه أبو داود والنسائي وابن ماجه، أنّ النّبيّ، صلّى الله عليه وسلّم، قال: ''صُم من الحُرُم واترُك، صم من الحُرُم واترُك، صُم من الحُرُم واترُك''. وقد أشار النّبيّ، صلّى الله عليه وسلّم، الى أنّه من الشهور المعلومة باستحباب صيامها، كما جاء في الحديث الذي يرويه الإمام النسائي عن أبي أُمامة بن زيد، رضي الله عنه، قال: قلت يا رسول الله، لم أزل تصوم من الشّهر ما تصوم من شعبان، قال: ''ذاك شهر يغفل النّاس عنه بين رجب ورمضان''، يقول العلماء: الشاهد في الحديث قوله صلّى الله عليه وسلّم: ''بين رجب ورمضان''، أي مفهومه أنّ رجب ممّا هو معلوم عند النّاس ومعروف عند الأشهاد، أنّه من أشهر الله الحرام التي يُستحبّ صيامه والإكثار فيه من أعمال الخير والقربات والمعروف. لذلك، علّق الحافظ ابن حجر العسقلاني، رحمه الله، فقال في كتابه ''تبيين العجب لما ورد في شهر رجب'': ''فهذا إشعار بأنّ رجب متشابه برمضان، وأنّ النّاس يشتغلون فيه من العبادة بما يشتغلون به في رمضان، ويغفلون عن نظير ذلك في شعبان، لذلك كان يصومه، وفي تخصيصه ذكر بالصّوم إشعار بفضل صيام رجب وأنّ ذلك من المعلوم المقرّر عندهم''. قال الإمام الحافظ الدميري نقلاً عن الحافظ عمرو بن الصّلاح: ''وفي صومه (أي شهر رجب) بما ورد في النصوص من فضل الصّوم مطلقًا، والحديث الوارد في سنن أبي داود في صوم الأشهر الحُرم كافٍ في الترغيب. لذا، نصّ الأئمة الأربعة، من السّادة الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، على استحباب صيام شهر رجب، وأنّه يُندب الإكثار فيه من أعمال البرّ، ولله في دهره نفحات، فلنتعرَّض لها. *إمام مسجد ابن باديس الجزائر الوسطى