يوفّر ضريح “مادح الرسول” عليه الصلاة والسلام، سيدي لخضر بن خلوف، لوحة ملخصة عن حقيقة المجتمع الجزائري في القرن الواحد والعشرين، الذي اختلطت فيه مظاهر الحداثة مع عودة التشدد الديني وطفو معتقدات تقليدية قديمة يصعب تصديقها مع ما وصل إليه العلم والتكنولوجيا من تطور في أيامنا. ويعتبر هذا الضريح المشهور بنخلته الملتوي جذعها، والمتواجد جنوبي بلدية سيدي لخضر شرقي ولاية مستغانم، نموذجا لكثير من الأضرحة التي صار كثير من الناس يلجأون إليها بدل الأطباء والأخصائيين النفسانيين للتداوي، ولأغراض أخرى كثيرة. في البداية كان الموقع الذي توفي ودفن فيه الشاعر الصوفي منذ أكثر من أربعة قرون، والذي استحق لقب “مادح الرسول” سيدي لخضر بن خلوف، بعد أن عاش 125 سنة متعبدا ومتنقلا بين الزوايا الصوفية، مكانا لميلاد “أسطورة” في ميدان التعبد والشعر، بعد أن اختار الشاعر الذي ولد في بلدة سيدي إبراهيم وتيتّم صغيرا. وقد تحوّل الضريح إلى معلم يمكن القول إنه صار “عالميا” بفعل المواطن التي وصلتها قصائده عبر حناجر مطربي الشعبي والملحون. وصار لهذا الشاعر المتصوّف موسما، يحتفل فيه الناس بطرق مختلفة من مهرجان للشعر الشعبي، ووعدة كبيرة يحتضنها الضريح ومحيطه في بداية فصل الخريف، مع ما يصاحبها من قراءات شعرية وعروض للفروسية وإطعام جماعي للوافدين. شاعر الرسول الذي ساهم في هزم الإسبان في مزغران لا يعرف الكثير ممن يترددون على مقام الشاعر الصوفي سدي لخضر بن خلوف تاريخ هذا الرجل، الذي ساهم في هزم الإسبان في معركة مزغران الشهيرة سنة 1558، والتي خلّدها في قصيدة شعرية رائعة “يا فارس من ثم جيت اليوم”، ولا يعرفون أيضا أن والدته أطلقت عليه حين ميلاده اسم “لكحل”، قبل أن يغيّره هو إلى “لخضر”، وقليل من يعرف أنه رأى النبي عليه الصلاة والسلام 86 مرة في المنام. كما لا يهتم المترددون على ضريحه للرحلات العلمية التي قادته إلى معسكر ثم تلمسان، حيث عايش سيدي بومدين شعيب، الذي يملك مكانة كبيرة في أرض الأنبياء فلسطين. ولا يسألون عن سر بناء المقام الذي صار يحمل اسمه. لكن الفتيات منهن اللائي “ما عندهمش الزهر” يتوغلن في القبة الصغيرة التي توجد في وسط المقبرة للبحث عن سعدهن. ويقصده الزوار كلهم للاستنفاع ببركته، وكثير منهم يطلبون منه ما لا يصح طلبه من الميت شرعا، مثل الزواج، المال، المساعدة على الهجرة، والشفاء من الأمراض التي استعصى على الطب المعاصر علاجها وغيرها. تستقبل القرية الصغيرة التي تحتضن الضريح، البعيدة بحوالي ثلاثة كيلومترات عن دائرة سيدي لخضر الساحلية والفلاحية، وحوالي 80 كيلومترا عن مدينة مستغانم، التي تحتضن مقام الولي الصالح سيدي لخضر بن خلوف، يوميا، زوارا من مختلف أنحاء الوطن، لكنها تتحوّل كل يوم جمعة إلى فضاء لمهرجان كبير يتلوّن بألوان قاصديه الذين يصطحبون معهم طقوسهم المحلية مع مرضاهم المصابين بالصرع، والسحر، والعين وغيرها مما يعتقدون أن شفاءها موجود في ذلك الموقع. وتوفر لهم القرية بدورها ما يحتاجون إليه لممارسة طقوسهم، من شموع وبخور وكذا “دربوكات” معروضة في المحلات المحيطة بالساحة المقابلة لمدخل المقام. ويتجوّل المتردّدون على الضريح في أمان كامل دون وجود لأصحاب البذلات الخضراء، حيث لا تسجّل اعتداءات ولا تحرّشات ولا سرقات. مهرجان الطقوس الوطنية يوم الجمعة ولا يصدّق المرء عينيه إذا اختار يوم الجمعة لزيارة سيدي لخضر بن خلوف، خاصة هذه الأيام المتميزة بلطافة الجو، ومناظر حقول القمح الذي يميل للاصفرار في أراض حمراء ملوّنة باخضرار أشجار الزيتون وصفوف الكروم، وذلك عندما تفاجئه مشاهد الحافلات المركونة في الحظيرة بعد أن أفرغت ركابها، وصفوف السيارات بترقيمات مختلف ولايات الوطن، وحتى تلك التي تحمل ترقيمات دول أجنبية يقيم فيها المغتربون الجزائريون. ويقصد زوار سيدي لخضر بن خلوف المقام، في العادة، بكامل تعداد العائلة، كما تنقل الحفلات العائلات التي لا تملك سيارات، ويصطحبون الصغار وحتى الرضع، الذين يخضعونهم لطقوس مثيرة، مثل تلمّس النخلة الملتوية والغسل بماء الحنفيات المتوفرة أسفل المسجد وغيرها، وينتظرون أن يروا في وجوه هؤلاء الرضع “إشعاعا” يفيد بأن البركة انتقلت إليهم، ويفرحون عندما يرون وجنتي أوجههم محمرة، رغم أن ذلك أمر طبيعي بالنظر للحرارة التي تسود المكان. وتدهش النسوة والفتيات الناس من خلال “الخشوع” الذي يظهرنه عندما يقتربن من الضريح، فيسرعن إلى ارتداء خمار يغطّي رؤوسهن بالنسبة لغير المحجّبات. وقبل أن يدخلن المسجد يشترين ما أوصين به من بخور و«جاوي” وشموع توقد داخل الضريح. وتقوم بعض النسوة بغرسها في أحد القبرين الموجودين في غرفة صغيرة بالمدخل الأيمن للمقام، لأغراض لا يعلمها سواهن. ويمكن أن تشاهد عائلة بأكملها تحتكر الغرفة التي تحتضن القبرين وتُدخل إليها الشخص، ذكرا أم أنثى، حيث يمكث بداخلها مدة من الزمن والناس تدعي له، وآخرون يترجون سيدي لخضر أن يفرج كربته! أما الضريح الذي يتوسّطه قبر سيدي لخضر بن خلوف، المغطى بقماش أخضر مطروز عليه مجموعة من الآيات القرآنية، فلا يفرغ. وأكثر من يدخله من النساء، حيث يتحلّقن حوله في جو من الخشوع التام، رغم الزحام ورائحة العرق الممزوجة بمخلفات الشموع المحترقة والبخور. منهن من ترفع يديها للدعاء، وأخريات يصلين. ويبقين هكذا يتأملن لمدة طويلة في هدوء، إلى أن تتوغل فتاة أو امرأة “مسكونة بالجن” أو “مسحورة”، وهي تصرخ أو تقوم بحركات غريبة تثير شفقة النسوة وتعاطفهن، وكذلك بعض الخوف من انتقال الجن الذي يسكنها إليهن. وهي أكثر الأوقات إثارة داخل الضريح، عندما تبدأ “المسكونة تردح” وسط النسوة وهن يبكين. ولا تغادر المقام واحدة منهن دون أن تترك “زيارة”، إما تضعها في يد “المقدّمة” أو تتركها فوق القبر. وهي الصدقات النقدية التي “تشتري” بها الزائرات ما قدمن من أجله إلى المقام. إنس وجن في تحفة معمارية ويعتبر مقام الولي الصالح سيدي لخضر بن خلوف تحفة معمارية، فهو مبني بالطراز الموريسكي الأندلسي. مدخله على شكل قوس، وفي الجهة اليمنى للمدخل يوجد مسجد جميل جدرانه مزينة ببلاط أندلسي، تابع لمديرية الشؤون الدينية مع المدرسة القرآنية الموجودة في الفناء الخارجي. يؤم الناس فيه في صلاتي الظهر والعصر إمام من مدينة سيدي علي المجاورة، كما يخطب ويصلي بالناس يوم الجمعة. في حين يتطوع أحد سكان القرية لإمامة الناس في صلوات الفجر والمغرب والعشاء. وعلى يسار المدخل توجد مكتبة الضريح، التي تتوفر على مجموعة من الكتب الدينية، أحد جدرانها مزين بلوحة زيتية كبيرة مرسوم عليها فارس بلباس تقليدي فوق جواد أبيض أمام النخلة الملتوية قبالة ضريح سيدي لخضر. وتفتح المكتبة وتفرش يوم الجمعة لتؤدي فيها النساء الصلاة، لأن المسجد لا يضم جناحا للنساء. ويمتلئ هذا المسجد عن آخره بالمصلين في صلاة الجمعة، نظرا للعدد الكبير للوافدين. وفي الوقت الذي يؤدون فيه الصلاة يتواصل الضجيج في الخارج. ويحجز الوافدون الأوائل إلى المقام الغرف المحيطة بفناء الضريح، ليتحاشوا أشعة الشمس. حيث تجلس النساء على أفرشة يحضرنها معهن، ويضعن وسط الحلقات التي يشكلّنها أباريق القهوة والشاي والمأكولات التي أحضرنها، في حين يلجأ الذين لم يسعفهم الحظ في احتلال إحدى تلك الغرف إلى الفضاء الخارجي في محيط المقبرة، يتحلقون هم أيضا تحت الأشجار حول مأكولاتهم ومشروباتهم. ويغتنم الأطفال هذه الرحلة العائلية للركض في كل الاتجاهات، من الموقع الذي تستقر فيه عائلاتهم إلى حظيرة السيارات، حيث تعرض نساء وأطفال الخبز التقليدي والبيض المسلوق، ثم إلى تجار الزلابية والشامية، وسط معرض آخر للعب الصينية والإطارات التي تحتوي صورة النخلة الملتوية. كما تتشكل الطوابير حول الدكاكين التي تعرض المبرّدات والمأكولات والمشروبات الغازية، التي يتهافت عليها الزوار الذين لم يصطحبوا معهم ما يسكتون به جوعهم، أو الذين نفدت مؤونتهم. ويصطحب بعض الأطفال معهم كرات يمارسون بها الهواية العالمية الأولى حيثما وجدوا مساحة تصلح لذلك. فرجة الأفعى الشافية ويبقى ما يحدث في المقبرة والفناء الخلفي للضريح من أغرب ما يمكن تصوّره. هذا الفناء الذي يحتوي سقيفة جميلة، وساحة مفتوحة، تطل على المقبرة والجهة الشمالية لمنطقة الظهرة المترامية الأطراف، يتجمع فيه الزوار حول مروّض للأفاعي يرتدي جلابة بيضاء ويحمل عمامة فوق رأسه. ويعتقدون أن تلك الزواحف تملك هي الأخرى قدرات علاجية خارقة. فمنهم من يلمسها، وآخرون يضعونها حول أعناقهم. وتطلب بعض النسوة من المروّض أن يمنحهن قارورات بلاستيكية مملوءة بالماء الذي لمسته الأفعى، يصطحبنه معهن ليدهن به أجسادهن للتداوي من “الخلعة” و«العين”، هكذا يعتقدن. ومن حين إلى آخر يرش المروّض ثعابينه بالماء، ليخفف عنها وطأة الحرارة المنبعثة من بلاط الفناء الذي تزحف فوقه، عندما يلاحظ أن حركتها خفت. وبين فترة وأخرى تظهر امرأة “شجاعة” تحمل الثعبان وتجري به وهو في يدها خلف أفراد العائلة التي قدمت معها، وهم يهربون في مختلف الاتجاهات في مشهد يجلب إليه أعدادا غفيرة من الفضوليين. كما صادفنا عائلة من شرق مستغانم اصطحبت معها فتاة في مقتبل العمر وهي تهذي، وقالت مرافقاتها إنها “مضروبة”، أي أصابها جن. وكلما حاول المروّض أن يقنعها بلمس الثعبان لعلاج مرضها تهرب صارخة. وفي الأخير أقنعها رجل قوي البنية حمل الثعبان بيده ولفّه حول عنقه. ووسط صياح المحيطين به “بسم اللّه.. بسم اللّه..” حملت أخيرا الفتاة الثعبان. وتغيّر لون وجهها. ثم فاجأها المروّض برشّها بالماء لتصرخ بكل حنجرتها مفجوعة. وهو دليل أن “الخلعة” التي كانت داخلها خرجت، حسب ما فهم الناس. وكانت الفتاة مسرورة بما وقع لها. وأخرجت مرافقاتها “زيارة”، هكذا تسمي النسوة الهدايا النقدية، وضعنها في يد مروّض الثعابين الذي تكاثر الناس حول حلقته.
طرد النحس في بيت الشعر وغير بعيد عن فناء الضريح، يلاحظ الزائر تجمّعا غريبا للنسوة حول قبة صغيرة وسط المقبرة، ويعتقد في البداية أنهن أهل ميت مدفون هناك، وعندما يقترب يجد امرأة خمسينية جالسة جنب القبة الخضراء، التي تنحني الفتيات لدخولها، حيث لا يمكن أن تدخلها إلا امرأة واحدة نظرا لصغرها. وعندما تخرج تتوجه إلى السيدة التي تقوم بكيل ذراعيها، ثم تضمهما وتحمل حفنة من التراب من الأرض، وتديرها على الذراعين سبع مرات، ثم تقوم بحركات دائرية باليد نفسها حول رأسها، وعندما تنتهي ترمي التراب. وقبل أن تنصرف الفتاة تمنحها “زيارة”، وهي فرحانة. ويقال في الضريح إن تلك السيدة تنزع “العين”. ولا تتوقف الفتيات من مختلف الأعمار عن التوغل داخل القبة التي هي في الأصل موقع “خيمة الشعر” التي نصبها الشاعر الصوفي سيدي لخضر بن خلوف، في ذلك الموقع في مرحلة تصوّفه، بعد عودته من تلمسان. يحافظ ضريح سيدي لخضر بن خلوف على نظافة كبيرة، يتكفّل بها سكان القرية الصغيرة التي يوجد بها، خاصة بعد أن استفاد من عملية ترميم كبيرة قبل أربع سنوات، أشرف فيها مهاجرون “سريون” مغاربة على تجديد نقش الجبس في سقف الضريح بشكل جميل، في عهد الوزيرة خليدة تومي، والتي رسّمت مهرجان الشعر الذي يقام فيه في شهر أوت من كل سنة. واليوم في الوقت الذي سطع نجم الرقاة، وحتى المشعوذين، وتراجع دور الطبيب، وفي المرحلة التي “أنجبت” فيها وزارة الداخلية عشرات الأحزاب، دون أن تزحزح الدور السياسي المتعاظم للزوايا الطرقية، مازال أناس كثيرون يعيشون معنا يعتقدون أن وطأة أقدامهم لضريح سيدي لخضر بن خلوف تشفيهم من كل الأسقام وأن ذلك يوصل إليهم الأرزاق ويبلّغهم ما يريدون من مراتب.