"الجليس" سلسلة حصص فكرية قدمها التلفزيون الجزائري نهاية التسعينات. لقد أجلس مقدم الحصة إلى جنبه قامات فكرية كبيرة محاورا إياهم ومستنطقا منطقهم في التفكير والتحليل: النبهاني قريبع، عبد المجيد مزيان، حمودة بن ساعي، رابح بلعيد.. والقائمة طويلة . لقد اصطاد مقدم الحصة طيورا نادرة وقربها من الناس مثقفيهم وعامتهم، فسمعوا واستمتعوا وإذا بهم يطلبون محاورة من تم محاورته من جديد، وأذكر أن الأستاذ النبهاني قريبع، رحمه الله، كان محل مطالبة لإعادة محاورته من جديد فكان للجمهور ما أراد . ولئن كان مألوفا أن يمتع من يجلس من المفكرين على منبر من المنابر ويفيد مستمعيه وناظريه، فإن الغريب أن تصادف مفكرين بلغوا من العلم مبلغا بسلوك مسلك ليس كباقي المسالك التي توصل إلى القمة، فمنهم من كانت له همة، فوصل إلى ما رنا إليه برغم المشاق، ومنهم من عاد فلاحا يسكن كوخا كما كان رغم أنه جاب قبل هذا الآفاق . مثال الجليس الغريب رجلان، أما الأول فهو حمودة بن ساعي المفكر الذي نشط خلال فترة إقامة مالك بن نبي في باريس فكان صاحبا له لا يفارقه، يلاقيه كل ليلة ليدارسه الفلسفة والفكر، وليس هذا بغائب ولكنه مذكور في كتاب ”مذكرات شاهد القرن” الذي ألفه مالك بن نبي، وفي الكتاب نجد إقرارا من بن نبي بفضل بن ساعي على تكوينه الفكري والفلسفي واكتسابه لبعد النظر والتحليل السوسيولوجي، لقد كان هذا الفيلسوف قريبا من المستشرق الفرنسي الكبير ”لويس ماسينيون” الذي كان يفتح أذنيه جيدا ملتزما الصمت عندما يتحدث بنى ساعي، فإذا تحدث بن ساعي سكت ماسينيون، كما يذكر مالك بن نبي. لم تكشف الجليس هذا الفيلسوف، فهو أكبر من أن يكتشف ولكنها كشفت مآله، فالمآل يدمي القلب ويحزن الحال، لقد بحثت الجليس عن الرجل فوجدته في إحدى قرى باتنة مهمشا مهشما جريحا، ناقما دون رغبة منه في الانتقام، بعيدا عن الأضواء، لقد وجد طاقم الحصة صعوبة في الحديث إليه باسم الصحافة فتنكروا، وضربوا معه موعدا للحوار الأسبوع الذي تلا لقاءه لكنهم عادوا ليخبرونا أن الأمر تعذر عليهم، ليس لأن الرجل استنكف عن الحوار ولكن لأن الرجل قد لحق بربه. مشهد مؤثر وغريب، قاس ومبك، ليس لوفاة الفيلسوف، ولكن لحال فلاسفتنا كيف يعيشون وكيف يموتون . وأما الرجل الثاني فهو رابح بلعيد الذي انتسب إلى جامعة باتنة كأستاذ للعلوم السياسية، وكان عام سبعة وتسعين جليسا غريبا بقصته ومساره في تكوين شخصيته العلمية، لقد اقتصرت الحصة على سرد لسيرة الأستاذ، وقلما طرحت عليه الأفكار ليناقشها، فالأهم هو كيف وصل إلى ما وصل إليه كأستاذ مرموق في العلوم السياسية وتاريخ الجزائر، لم يجد مقدم الحصة الوصف الملائم الذي ينعته به: أستاذ، مفكر، رحالة.. فهي أوصاف تجتمع فيه . الغريب أن تجد أستاذا أو مفكرا لم يدخل المدرسة قط، وهي الميزة الأساسية التي ميزت الرجل، فالدكتور بلعيد لم يدخل المدرسة أبدا، لكنه غامر وقدم طلبا لجامعة سان فرانسيسكو الأمريكية فتم قبوله وأصبح طالبا بالجامعة حتى حصل على الليسانس وأضاف عامين فيما بعد التدرج دون أن يحصل على الماجستير التي حصل عليها وعلى الدكتوراه بعد ذلك من جامعة القاهرة. تحدث الرجل عن سيرته مذ كان صبيا في إحدى قرى عين الدفلى الفلاحية وماسحا للأحذية في العاصمة وعاملا بسيطا في مطابخ سفن الحلفاء التي نزلت بالجزائر خلال الحرب العالمية الثانية، لقد كان عمله في سفن الحلفاء ومعاناته من الظلم والتمييز الذي فرضه الاستعمار الفرنسي دافعا قويا لتفكيره في التخفي داخل إحدى السفن والهجرة نحو إيطاليا ثم إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية، حيث عمل في البحر لخمس سنوات تعلم خلالها اللغة الإنجليزية وراح يطمح للدراسة في الجامعة حتى أصابها في جامعة سان فرانسيسكو . لكم نحن بحاجة إلى مثل هذه الحصص اليوم، فهي حصص تدفع الناس إلى التعلق بهؤلاء المفكرين وجعلهم قدوة لهم، لكم نحن بحاجة إلى ذلك في هذا الزمن الذي انحط فيه كل شيء حتى الانحطاط نفسه، فالانحطاط اليوم عام وشامل: انحطاط في الأخلاق، في الذوق، في السلوك.. وهلم جرا، ورغم هذا لا نجد حرصا كبيرا من مؤسساتنا الإعلامية على إنتاج حصص ذات قيمة مثلما كانت الجليس. إن ما نلمسه من حياة حمودة بن ساعي هو التهميش الذي يلقاه المثقف في الجزائر، فالثقافة ليست العملة الأساسية التي يتداولها الناس، بل قد تكون خصما تحارب ويصبح المثقف عدوا لذودا يجب إبعاده ليس سياسيا فقط ولكن اجتماعيا أيضا كما هي حال بن ساعي، كما أن العبرة التي تؤخذ من حياة رابح بلعيد هي التحدي في طلب العلم وفرض الوجود في الحياة . الاستبعاد الاجتماعي والثقافي هي ميزة مجتمعاتنا بامتياز، فهذه المجتمعات لم تكتف بتهميش المثقفين الذين تزعجهم فوضى النظام الاجتماعي السائد، ولكنها تعمد إلى إبعادهم عن الحياة، فعندما ترى مثقفي المجتمع في عيشة ضنك، فاندب وجهك وابك، وقل: ”بلادي السلام عليك” . [email protected]