في بيئة جبلية تدعى "لفتاحة"، قلعة الجهاد ومنزل الشهداء التابعة لدوار تسدان بشمال غرب ولاية ميلة حاليا، وفي سنة 1939 وُلدت المجاهدة الزهرة حمويي، ولم تكن تدري أن الأقدار تخبّئ لها حياة كلها مآسي وأحزان. جاءت إلى الدنيا وترعرعت وقد حفّها اليتم والفقر والعوز من كل جانب، وزادها حيف الزمان وضيم الاستعمار حدة وقسوة. لم تكن نشأتها كالأخريات ولم تنعم بدفء الوالدين وحنان الأمومة وحصن الأبوة كغيرها من بنات المشتة. شاءت الأقدار أن تحرم من أعز الناس في الوجود، الأبوان، استمدت عنفوانها وكبرياءها وشجاعتها من طبيعتها الريفية القاسية الصلبة، وقد بدا ذلك واضحا على ملامحها حتى وهي قد تجاوزت السبعين، لم تتوان لحظة لتلبية نداء الوطن حين دقّت ساعة الجهاد، وضحت بشبابها وكل ما تملّك لحظة النداء، وفضّلت حياة الجبل والكفاح على حياة تحت نير الاستعمار ورحمة الاحتلال، لتكون بذلك ”لبؤة” من لبؤات الثورة التحريرية بمنطقة تسدان ناحية فرجيوة. هي آخر العنقود في عائلة تتكون من 6 بنات، فقد فقدت أمها وعمرها سنتان، ثم أبوها وهي لم تتجاوز سن الرابعة لتنشأ نشأة غصّت بالأحزان والآلام والمآسي. لكن عمها الطاهر، رحمه اللّه، تكفّل بها ومعها إحدى أخواتها، بعد أن منّ اللّه على بقية الأخوات بأزواج، فتكفل بهما دون ضجر ولا كلل، وكان بحق أبا رحيما وسندا قويا لها. قصة التحاقها بالمجاهدين في الجبل تروي البطلة الزهرة حمويي قصة التحاقها بالجبل وكانت شابة يافعة لم يتجاوز عمرها الخامسة عشرة سنة بعد. وذات يوم من شهر أكتوبر من سنة 1955 جاء (لجماعة) المجاهدون ليلا وطرقوا باب دارهم وطلبوا من عمها المدعو مسعود التخلي عن دوره ك«وقاف” بالمشتة، كما طلبوا من سكان الدوار قتل كل الكلاب الموجودة هناك. تقول المجاهدة الزهرة، بعد يومين عاد المجاهدون من جديد للدوار وطلبوا من أحد الجيران يدعى السعيد تاسولت الالتحاق بهم في الجبل وكلفوه بتجنيد الشباب والمواطنين على مستوى المشاتي، ثم حوّلوا دار العم علي حمويي إلى مركز للجيش، كونه يقع في منطقة آمنة ومحصنة ومخفية عن أعين العدو. وكان عمها مسعود يحمل السلاح ويعمل مع المجاهدين في سرية تامة، ولما كشف أمره تم القبض عليه وقام جنود الاحتلال بذبحه وصادروا محله التجاري الوحيد في المشتة. بعد مدة تقول المجاهدة: ”حضر المجاهد السعيد تاسولت ومعه مجاهدات وطلب مني الالتحاق بهن بالجبل”، فلم يكن أمامها سوى أن لبّت نداء الواجب، وقالت ”روحي ومالي فداك يا وطني” ،وحين همت بالمغادرة ودّعت الجميع وكم كان الموقف مؤثرا، خاصة لحظة توديعها لعمها الطاهر، أبوها الذي رباها ورعاها.. ”لقد أقنعتني المرشدة التي كانت تسمى ليلى من جيجل فصعدت إلى الجبل وتحديدا إلى مركز بمشتة الكرم، وهناك بدأت حياة جديدة على صغر سني، حياة الكفاح والجهاد”، وتضيف: ”كانت المجاهدات كثيرات، وكنا نتكفل بطهي الطعام وإعداد ”الكسرة” للمجاهدين وتوظيب المكان الذي يقيمون به”. وتضيف: ”لم نكن نطيل المكوث في مركز واحد بل كان القادة يحوّلوننا من مركز إلى آخر على غرار مراكز تامزڤيدة، والمركز الإداري بالشوارفة”، وكانت المجاهدات يطفن بالمشاتي ويرتدين ألبسة مدنية راثية وبالية، ويتصرفن على أنهن بنات تلك المشاتي ليستترن من العدو وعيونه المنتشرين في كل ركن. اسأل جبال البابور وسرج الغول وأولاد عامر، والجبيسة وتكسانة وبوداود والصراف والبلاعة عن الزهرة حمويي يأتيك الرد باليقين، هي ”لبؤة” دوى زئيرها تلك الجبال الشامخات. تقول الزهرة إنهم قتلوا في جبال الصراف بنواحي سطيف أكثر من 100 شهيد في واقعة مأساوية من سنة 1958. لم تكن مشتة لفتاحة مباحة للاستعمار خلال السنوات الأربع الأولى من الثورة، بل كانت محرّمة وحصنا منيعا يحتمي به المجاهدون، قبل أن يكتشف الخطر الذي يأتيه من ذلك المكان ويوجه إليها كامل قوته. وأصبح الاحتلال، تقول السيدة الزهرة، يقصف بالثقيل معاقل ومراكز المجاهدين الذين اكتشفهم بمساعدة بعض الخونة سنة 1959. تتوقف بطلتنا للحظات لأخذ أنفاسها واسترجاع ذكرياتها الأليمة وهي تذرف دموع الأسى والحسرة على من فقدتهم من رفيقات ورفقاء الدرب، لقد تذكرت شهيدة الوطن ورفيقتها الزهرة دراجي التي كانت دوما تلازمها في القسم الأول، والتي استشهدت سنة 1960 بمنطقة تدعى طلحة بتسدان إثر وشاية من أحد الخونة. وقد استشهدت بعد أن أطلقت العنان لزغرودة دوت سماء المكان. تقف مرة أخرى هذه المجاهدة البطلة لتعتصر ذاكرتها لتستقطر منها بعض ما جادت به عن زمن البطولة والجهاد والتضحيات. تقول محدثتنا إنها لم تحمل السلاح أبدا لأنه كان لا يكفي للمجاهدين، غير أنها وبقية المجاهدات كن يساعدن المجاهدين في حمل المتاع عند تنقلاتهم، ”لقد عانوا كثيرا من الجوع والعراء والحفاء، فهناك من كان يأكل ”خبزة ”واحدة طيلة أسبوع”، ولا تنسى حصار العدو لهم سنة 1960 بجبال الشوارفة لمدة 15 يوما حين كاد الجوع أن يقتل الكثير منهم. يوم القبض على الزهرة تروي الحاجة الزهرة، التي لا زالت تحتفظ بكامل قواها البدنية والعقلية وبذاكرتها القوية وحتى بأناقتها، أنه و«في الفاتح من شهر مارس من سنة 1961 كنت في مركز السوايب القريب من مشتتي لفتاحة فطلبت من القيادة أن يسمحوا لي بزيارة أهلي فسمحوا لي بذلك، وهناك رآني أحد الخونة وكانت معي مجاهدة أخرى وهي من أهله، فتعرّف علينا واعتراه الشك أننا مجاهدات ولكننا أنكرنا ذلك، بعد ذلك التقى بشاب يعرفنا من المشتة وتحت الضغط والترهيب والتعذيب كشف له ذلك الشاب عن أمرنا وأخبره بحقيقتنا. ولم ينفع إنكارنا لما قاله في شيء وتم القبض علينا”، في ذلك اليوم زجّ بها ورفيقة دربها في السجن الأحمر ومنه مباشرة إلى ”المكتب الثاني”، حيث تحكم اليد الحمراء بقبضة من حديد حيث خضعت البطلة ورفيقتها إلى كل أشكال التعذيب. وهنا تحاول هذه المرأة الحديدية أن تصمد أمام دموعها وتقاومها من دون جدوى. تلك المشاهد الأليمة اللاإنسانية تحرّك فيها مشاعر الألم والحزن والأسى، لقد عاشت ورفيقتها أسوأ أيام حياتها، خاصة مع حارس سجن كلف بتعذيبها يدعى زوبير: ”كان يضعنا داخل عجلة وسط حفرة ويصب الماء علينا، وأحيانا كان يضعنا داخل خزان مائي مملوء بالماء ويكبنا على وجوهنا عاريات ويربطنا إلى خشبة بها قطعة خشبية توضع في أفواهنا، وكان أكثر من ذلك يأمرني بتنظيف فضلات كلبه، وكنت أرفض..”. لقد قضت في السجن ما يقارب خمسة أشهر من بداية مارس إلى نهاية شهر جويلية، وسمعت عن توقيف القتال وهي داخل السجن، ”وكان الجنود الفرنسيون يحضرون رفقة مبعوثي منظمات حقوق الإنسان ويحاولون تلميع صورة السجون تلفيقا وبطلانا”. تواصل الحاجة سرد قصتها بالقول: ”في يوم خميس من شهر جويلية 1961 أفرج عنا وكان يوم سوق أسبوعي، فالتقيت ببعض جيراني وأهلي وعند عودتي إلى أهلي بدوار لفتاحة على متن بغال اعترض طريقنا مجاهدون بمركز السقيفة فطلبوا مني البقاء معهم ليلة، وصباحا واصلت سيري إلى مشتتي حيث أهلي”، لكن المستعمر وعملاءه في كل مكان اقتربوا من المجاهدة وأخذوا يستفزونها، وطالبوها بترخيص يسمح لها بالبقاء في المشتة فأخبرتهم بأنها خرجت للتوّ من السجن. غير أن روحها الثورية وتعلّقها بحياة الجهاد دفعها من جديد بعد أسبوع راحة إلى العودة للجبل رفقة السعيد تاسولت، حيث واصلت مهمتها الجهادية، وسط جحيم من القصف العشوائي والتمشيط المستمر من قِبل الاحتلال واستمر الوضع كذلك إلى غاية الاستقلال، حيث خرجت كغيرها للاحتفال بالحرية والسيادة. في الاستقلال دخلت مرحلة جديدة، وفي سنة 1963 تزوجت بمجاهد فذّ تعرّف عليها في الجبل وكان مكلّفا بمهمة خطيرة جدا هي جمع وتوزيع البريد، كما أنه نجا بأعجوبة من الموت المحقق حين أصيب بقصف من طائرة عمودية ولأن الأعمار بيد الخالق، فقد شاءت الأقدار أن يجتمع كل من المجاهدة البطلة الزهرة حمويي والمجاهد محمد بومامش تحت سقف واحد، وقد منّ عليهما اللّه ب8 أبناء كلهم اليوم إطارات، كما للحاجة الزهرة والحاج محمد 22 حفيدا ينعمون بالحياة معهم.