بإقدام علي بن فليس، رئيس الحكومة والأمين العام الأسبق لحزب جبهة التحرير الوطني، على إيداع ملف ترشحه للانتخابات الرئاسية ليوم 17 أفريل، بالمجلس الدستوري يكون قد تمسك بوعده بالبقاء في ميدان المنافسة الانتخابية مهما كانت هويات المترشحين لهذا الاستحقاق الرئاسي، ومهما كانت الظروف المحيطة بهذا الحدث الفاصل في مستقبل الحياة السياسية. ولم يكتف سي علي برفع التحدي رغم دعوات الأصدقاء والأعداء له للانسحاب من الانتخابات، على غرار ما فعله مرشحون آخرون، ولكنه وجّه تحذيرا صارم اللهجة لمن تسوّل لهم أنفسهم التلاعب بنتائج الانتخابات، أو تزويرها بما يجعلها مجرد إجراء تقني وليست وسيلة للتداول السلمي على السلطة، وذلك ما أشار إليه أحد كبار العارفين بطبيعة النظام، والكتل المؤثرة في اتخاذ القرار، وهو رئيس حكومة الإصلاحات في عهد الرئيس الراحل السيد الشاذلي بن جديد– رحمه اللّه- سي مولود حمروش، الذي برر عدم مشاركته في الانتخابات الرئاسية بكون العملية السياسية مغلقة، وهنا عدم جدوى الانتخابات في ظروف الانسداد الموجود داخل النظام، ما يجعل الاقتراع المقبل آلية أخرى للإقصاء، ويشكل بالتالي مدخلا للمشكلة وليس للحل. ولكن بن فليس ظل واثقا من قدرة برنامجه الانتخابي على إقناع أكبر شريحة من الجزائريين لإحداث التغيير وتحقيق التداول على السلطة، وإرجاع الأمل والفعالية للجيل الشاب الذي يشكل أغلبية المجتمع، ويشعر مع ذلك بالإقصاء والتهميش من مواقع تسيير أمور البلاد، وتأخر تسلم مشعل القيادة من جيل الثورة الذي يمثل السيد عبد العزيز بوتفليقة أحد أبرز رموزه، وأقوى مرشح للفوز بعهدة رئاسية رابعة. تصميم بن فليس على تحقيق مشروع “التجديد الوطني” يوحي بأنه سيكون رقما صعبا في رئاسيات 17 أفريل. وليس في نيته الاكتفاء بتأثيث الديكور الانتخابي، وإسدال ستار الصمت على المس بمصداقية الانتخابات أو عدم حياد الإدارة أو القضاء، أو استعمال وسائل الدولة وإمكانياتها لصالح المرشح الذي تدعمه السلطة، وظهر ذلك في تصريحاته المتعددة قبل الانطلاق الرسمي للحملة الانتخابية. سبق للمترشح بن فليس أن خاض معركة انتخابية ضد الرئيس بوتفليقة، وانسحب من الحياة السياسية الرسمية بعد النتيجة المتواضعة التي نسبت له في رئاسيات 2004. ولم يعلق على تلك الخسارة إلا بعد عشر سنوات في لقاء تلفزيوني وصحفي، وفسر تصرفه ذلك الذي استغربه البعض بالتزامه بقيم ثقافة الدولة، التي دفعته لتفضيل المصلحة الوطنية والحفاظ على الجزائر ووحدة صفوف حزب جبهة التحرير الوطني الذي تحمل أمانة تسيير شؤونه خلفا للدكتور بوعلام بن حمودة. في المرات القليلة التي التقيت فيها بالسي علي لم يكن مهتما بالحديث أو التعليق على الشؤون أو الأحداث السياسية إلا فيما ندر، ولكنه في المقابل كان شغوفا بالحديث عن الأدب والفكر، فكان يتحدث بعمق وبراعة عن نبوغ أبي الطيب المتنبي وعبقرية أبي العلاء المعري وموهبة مفدي زكريا، كما كان يتحدث بتأثر وحنين وإعجاب عن والده الشهيد التهامي بن فليس المدعو سي بلقاسم، عضو جمعية التربية والتعليم التابعة لجمعية العلماء المسلمين، وخلد ذكره بكتاب خصصه لسيرته الذاتية، وفيه يقول: “مثلا كنت، ومثلا تبقى، وستبقى في قلوبنا وأحاسيسنا، إنك المثل الذي سيتبعه أبناؤك وأحفادك من بعدك”. وبعد هذا الكتاب العائلي، جسد خلق الوفاء والتواضع الذي يتميز به من خلال تكريم ذكرى أساتذته بثانوية التعليم الفرنسي الإسلامي بقسنطينة بتأليفه كتاب عنهم تحت عنوان “إلى هؤلاء الذين أناروا لي عبقرية لسان العرب”، وهو كتاب اعتبره صديقه وزميله في الدراسة الثانوية الناقد الجزائري الدكتور محمد لخضر معڤال: “..أكثر من مجرد سرد للشهادات، بل انحناءه عرفان لبعض من أساتذتنا الجزائريين..”. إذن ليس هناك شك في أن كل المزايا الشخصية والأخلاقية والعلمية والرصيد السياسي والنضالي الكبير للأستاذ علي بن فليس تؤهله لأن يخوض منافسة الانتخابات الرئاسية بجدارة واقتدار، ويمتلك أوفر الحظوظ للفوز إذا احترمت شروط المنافسة النزيهة، وطبقت عمليا تعليمة رئيس الجمهورية التي نصت على: “ضرورة الالتزام التام بمبدأ الإنصاف والحياد من قبل جميع أعوان الدولة المجندين في إطار تنظيم الانتخابات، وتفادي المساس بأي حق من حقوق الناخبين والمترشحين المكفولة دستوريا وقانونيا”. ويلخص بن فليس جوهر برنامجه الانتخابي بقوله: “أرى أن برنامجي سيكون دستورا جديدا للجزائر، لماذا؟ لقد فكرت 10 سنوات، وفكرت أكثر بأن الجزائر عرفت 4 دساتير في 63، 76، 89، 96. لا أنتقد شخصا بعينه، فقد اجتهد هؤلاء الناس الذين عملوا على هذه الدساتير، واجتهدوا، وأصابوا، واجتهدوا وأخطأوا. أنت تعرف القاعدة فمن اجتهد وأصاب فله أجران، ومن اجتهد وأخطأ فله أجر، المهم وصلنا للمرحلة التي نقدر فيه تقييم الأمور، ونقول لماذا لم تكتب ديمومة كبرى للدساتير الأربعة في الحياة؟ لسبب واحد هو أنها لم تكن دساتير أعدت بأسلوب وإجراء توافقي. المنطق الذي أنا فيه لابد من إعداد مشروع دستور توافقي تجتمع فيه السلطة والمعارضة، وكل الفاعلين السياسيين، والممثلين الحقيقيين للمجتمع المدني، ونخرج بدستور توافقي لأول مرة في الجزائر، وهذا الدستور التوافقي يخرج الجميع من سلطة ومعارضات ومجتمع مدني إلى الشعب للاستفتاء على هذا الدستور..”. ومن الجدير بالملاحظة أن الأستاذ علي بن فليس يولي أكبر الاهتمام لإعادة الاعتبار للسلطة القضائية بترسيم مبدأ استقلال القضاء، وللسلطة التشريعية بإعطاء الصلاحيات الحقيقية الكاملة لممثلي الشعب في البرلمان في مساءلة الحكومة، ومراقبتها، وحتى إسقاطها إذا لزم الأمر، وهذا هو المدخل الحقيقي لإيقاف سرطان الفساد الذي أصبح يهدد كيان الدولة، وإنجاز التنمية، ومستقبل البلاد!