في زمن تلاشت القيم وتميعت المفاهيم، وأسلمت الأمة ضميرها إلى غفوة رهيبة تكاد تنسيها واجب حاضرها نحو ماضيها وتفقدها كينونتها، بتغييب ذكر رموزها وعلمائها ومصلحيها، حتى بات الوضع أكثر من أي وقت مضى بحاجة إلى معجزة حقيقية تنتشل الأمة من واقعها المتردي وتعيد الأمور إلى نصابها وتسوي ما اعوج من طبيعة الأشياء، فيعود بذلك للأمة عقلها وتثوب إلى رشدها وتنصف رجالاتها. مهما أفيض في الحديث عن عظماء الأمة فلاشك أننا نقف عاجزين عن توفيتهم حقوقهم من الذكر والتخليد، لاسيما في زمن قلّ فيه العظماء وتراجع التقدير والتبجيل للعلماء، بسبب انقلاب الموازين وتحكيم معايير أخرى غير تلك التي ينبغي تحكيمها. فهل بات ضربا من الخيال انتظار رجل صالح مصلح بحجم العلامة مبارك الميلي يطل على هذه الأمة، ويأخذ على عاتقه مسؤولية إعادتها لطريقها وإعلان الحرب على القذارة الذهنية والنفسية، وكل أشكال الميوعة في بلد يكاد يفقد كل ما هو جميل؟ لم تكن الجزائر أبدا عاقرا فهي أرض العظماء والعباقرة والشهداء، والنماذج كثيرة في التاريخ القديم والحديث؛ وقد تعرض علينا بعض تلك النماذج للاقتداء والتأسي ومن بين أولئك العلامة الفذ والمصلح المرشد والإمام الفقيه والمؤرخ الراسخ الفكر مبارك الميلي، الذي خلد اسمه في التاريخ بمآثره ومناقبه الخالدة، وأعماله الجليلة التي بقيت محفورة في الذاكرة الجماعية للأمة . الذكرى التاسعة والستون لرحيل هذا الرجل تثير في النفوس شعورا بالخجل أمام الأجيال التي وجدت نفسها تتخبط في واقع مرير منقطع عن قيم الأصالة، في غياب من يتولى هذه المهمة ويغرس في النشء تلك القيم والمبادئ، كما فعل مبارك الميلي وابن باديس والبشير الإبراهيمي والعربي التبسي، وغيرهم كثيرون من أعضاء جمعية العلماء المسلمين، وآخرون. لم يكن مبارك الميلي مجرد إمام يقدّم دروس الوعظ، ولا مجرد مؤرخ يسرد الأحداث ويؤرخ للوقائع، كما أنه لم يكن مجرد مصلح اجتماعي يعنى بإصلاح حال المجتمع، بل كان موسوعة ومفكرا ومبدعا وعالما متقد الفكر، شغل نفسه بمصير الأمة ومستقبل البلاد والعباد. ولم تكن لتجتمع في الرجل كل تلك المواهب والصفات لو لم يكن ملازما للاجتهاد، مفارقا للنوم والراحة، مضحيا بأعز ما يملك، صابرا مثابرا، فهو نموذج لم يعش لنفسه بل عاش لأمته. مبارك الميلي يبدو للكثيرين على أنه شيخ هرم، بالنظر لمؤلفاته ومخلفاته الكثيرة وكنوزه الثمينة، غير أن الرجل لم يقض في هذه الحياة سوى ردح قليل من الزمن؛ لقد مات ولم يتجاوز عمره سن السابعة والأربعين. قامة من قامات الوطن أحد علماء الجزائر وبناة نهضتها العربية والإصلاحية كما قال فيه أحمد حماني: “رجل صنع من العدم شعبا وأمة غيرت مجرى التاريخ. رجل اشتغل بتأليف الرجال بدلا من تأليف الكتب”. جاهد مبارك الميلي في الإصلاح بلسانه وقلمه، كما قال عنه شيخه محمد الشاذلي بن القاضي من جامع الزيتونة عن شخصية اجتمعت فيها خصال سديدة قلما اجتمعت في غيره، فإذا اجتمعت هيأت لصاحبها المكانة والحظوة من قيادة الجيل ومهدت له مقعده من زعامة النهضة، كما قال عنه الشيخ البشير الإبراهيمي .
نشأة قاسية ومكابدة على طريقة العلماء هو مبارك الميلي بن محمد بن رابح بن علي إبراهيمي الهلالي الميلي، ولد سنة 1898 في ريف ارمامن بدوار موزال بأولاد مبارك، من أم تدعى تركية بنت أحمد بن فرحات حمروش من أرمامن، والد مبارك أرمامن، عاش طفولة قاسية جدا لأنه تربى يتيما فقد والديه وهو ابن أربع سنوات كفله جده، وبعد سنتين يموت، ثم تنتقل الكفالة إلى الأعمام. أوصى جده بتمكين مبارك من تركة أبيه، لكن عمه رابح رفض أن يستأثر مبارك بالتركة. وعده جده بإرساله لمدرسة للتعلم حين استظهاره للقرآن الكريم، كما يؤكد ذلك الأستاذ الباحث نور الدين بوعروج الذي قال: “بدأ نبوغه مبكرا وهو في سن الخامسة عشر، وكان شغوفا بالعلم، يبحث عنه أينما وجده، يقطع مسافات طويلة غير مبال بما يواجهه من صعاب ومخاطر. كان يخرج من دواره غبالة بولاية جيجل راجلا ومنها إلى حمالة ثم الڤرارم، فميلة ثم إلى زاوية سيدي الشيخ ببلدية سيدي خليفة، وهناك يمكث 15 يوما دون علم من عائلته، والتي كانت تبحث عنه في أسواق الڤرارم والميلية، وبعد أن يتم الوصول إليه “يسترده” عمه من الزاوية، لكن مبارك يعيد الكرة، وذات شتاء بارد جدا، ففر من جديد إلى ميلة”. لم تكن حياته مترفة، لقد عاش حياة اجتماعية صعبة كغيره من أبناء قريته، يضيف الأستاذ بوعروج، لكن ذلك لم يثن عزيمته في تحدي الصعاب وطلب العلم. وهو ما أوضحه الأستاذ الجامعي علي بن الطاهر، الذي ركز على إصرار مبارك الميلي في طلب العلم منذ صغره، حيث قال: “لم يكن مهتما سوى بطلب العلم، ولم يكن منشغلا إلا بالعلم، ما جعل لجنة الامتحان في شهادة التخرج من جامع الزيتونة تقول له أنت مبارك علينا وعلى أمتك.”
أشد ما يكره الكذب وكان العطوف الصارم في آن واحد ما علق في ذاكرتي، تقول أسماء، ابنة الشيخ مبارك، تلك الهيبة التي كانت سمة بارزة في شخصيته، لقد كان شديد الحرص على تحفيظنا القرآن الكريم، وتضيف “أذكر ذات مرة لما أخذني معه لزيارة تيمڤاد، وكنت حينها في الرابعة من العمر، وكان يطوف بي زوايا المدينة الأثرية ويعرفني على الآثار. كان يشجعني كثيرا على العلم، حتى الخدم كان يسعى لإخراجهم من الأمية، وكان شغوفا بتعليم الكل، في مدرسة حياة الشباب بميلة التي تستقبل نهارا التلاميذ وليلا لمحو الأمة”. تقول أسماء إن أشد ما كان يكره الكذب، وكان العقاب صارما وشديدا لأي شخص يتأكد من كذبه. أما عن مبارك الأب فقد كان أبا عطوفا يفيض حنانا وحبا لأبنائه، تقول أسماء، لكنه صارم في الوقت نفسه، “كان يسوي بيننا وبين الخدم”، لقد كانت له منهجية، حسبها، سليمة في التربية، “كان لا يتصرف بعنف، بل كان لا يكلّم المخطئ حتى يحس بخطئه. كانت له طريقة متميزة في تربية الأطفال، لا يقول للمخطئ أخطأت، بل يدفعه تدريجيا ليدرك بأنه مخطئ، لم يكن يعاقب بالعصا أو بالكلام الجارح، لم أسمع منه أية كلمة جارحة ولا الخدم أيضا.”
الأب الديمقراطي.. وكتبَ تاريخ الجزائر على شمعة أما زينب التبسي، زوجة ابنه محمد الميلي، فتدلي هي الأخرى بدلوها في خصال الرجل ومعاملاته وتربيته للنشء ولأفراد العائلة، حيث تقول: “كانت له عائلة محترمة جدا عائلة تهتم بالدين، كان يعجبني في طريقة تعامله المثلى مع الجميع. تربيته تختلف عن تربية البشير أو العربي التبسي، كان يغيّرني بتلك الطريقة، لقد كان أبا ديمقراطيا يستشير الابن في اتخاذ أي قرار ويضع ابنه وكأنه رجل، وهو ما لم يكن يتوفر في غيره”، تضيف زينب، زوجة محمد الميلي ابن الشيخ مبارك، “لم يكن يحب الكذب، كان شعلة من الذكاء، يتأكد من أي حادثة، كان يقول لابنه محمد قل الصدق ولو كان مرا وأخفف عنك العقاب، لقد كتب تاريخ الجزائر على شمعة قبل شارل أندري جوليان، لقد دخل التاريخ من بابه الواسع، حسب حكاية زوجته، وكان مثالا للزوج الكريم، يحترم زوجته ولا يعنفها، حتى في حالات غضبه . أما الأستاذ عبد الرحمن اللبدي، فقد أكد أن الشيخ مبارك الميلي هو مشروع وليس عملا فرديا معزولا يراد من خلاله القيام بنهضة شاملة، لقد كان يؤدي هذه الرسالة بكاملها داخل المجتمع، يضيف الأستاذ اللبدي، وكان رجلا فذا وموهبة فذة، فالحديث عن هذا العلامة يبدو للبعض على أنه الرجل المعمر، لأن ما تركه أكبر من عمره، فاليوم في حياته يقدر بشهر، ولذلك تبدو إنجازات العلماء أعظم من أعمارهم. يخيل إليك وأنت تتكلم عن هذا الرجل وكأنك تتحدث عن شيخ تجاوز الثمانين، ولكنك في الحقيقة تتكلم عن شاب أفنى عمره في الاجتهاد. ومن أراد أن يدرس جمعية العلماء المسلمين، يؤكد اللبدي، عليه أن يدرس رجالاتها المعروفين بالمعرفة الموسوعية والتفاني في تقديم الجهد الكبير. “فمظاهر الإصلاح عنده هي مظاهر الإصلاح في جمعية العلماء المسلمين. الشيخ ركز على التعليم، لأن الاستعمار أجهد نفسه في تجهيل الشعب، فكانت له جهود جبارة في هذا المجال، أسلوبه الثاني كان هو تعليم العقيدة، وكانت الكثير من الخرافات والبدع ومظاهر الشرك شجع على انتشارها الاستعمار لتخذير ضحاياه حيث شجع على نشر مختلف الملل والنحل”. ومن مظاهر الإصلاح عند الشيخ أيضا ربط المجتمع بتاريخه، لأن الاستعمار عمل جاهدا على تشويه وطمس تاريخ الجزائر، فألّف كتابه في التاريخ ليبين مدى رسوخ قدمه في علم التاريخ، مع قلة التأليف في ذلك الوقت، وعمل على تعريف الشعب بتاريخه وأصوله وأعطاه هويته.
المتمدن الذي حارب الشعوذة ورفض الاندماج أما الدكتور يوسف عابد، أستاذ بجامعة الأمير عبد القادر بقسنطينة، فقد أبرز جهود الرجل من الناحية الاجتماعية، مركزا على الإشكالية التي واجهتها الجمعية ومبارك الميلي، والمتمثلة، حسبه، في طبيعة الخطاب الموجه للشعب من أجل إحداث التغيير، وهي إشكالية معقدة، يقول الدكتور، في ظل وجود تشكيلات اجتماعية متعددة ومتناقضة بين الريف والمدينة. مبرزا الضغوط التي كانت تمارس على التشكيل الاجتماعي الوحيد على سبيل المثال في قرية إقجان بفج مزالة وقبيلة بني ثابت الموجودة بجبال القم، ومنها تتفرع قبيلة بني تليلان التي منها يتم التوجه إلى غبالة وسطارة، وهي مجموعات سكانية تمنعها من الانفتاح عوامل الطبيعة والجبال، هذا التشكيل الاجتماعي محكوم بالروابط القبلية، ورابطة الدم، وكان الصوت الديني والسياسي لا يصل إلا باهتا وضعيفا إلى هذه التشكيلات، كما يوضح الدكتور عابد، فضلا عن انتشار صوت سوء الاعتقاد والطرقية، فالدين الصحيح لم يصل بسبب الضغوط الاجتماعية والطرقية وسوء فهم الدين، والروابط الاجتماعية والنخبة الضاغطة التابعة لفرنسا. وكان مبارك عبقريا، ولأن الحضارات لا تبنيها العقائد وإنما تبنيها العبقريات، فقد حاول أن يستوعب التجمعات السكانية المشكلة على أساس عائلي، المبنية على التشكيل الاجتماعي والطرقي، وتحكيم الدين مع عدم رفض للقوانين الإدارية الأوروبية، ومعه في ذلك جمعية العلماء وقد أعطاه ذلك متنفسا، وطرحت فكرة الاتحاد والاحتكاك أو الاندماج للتفتح والاستفادة من حضارة الغرب، وبقي هو ينتظر حتى نضجت الفكرة وتميز الفرقاء عن بعضهم، فقال: “وحينئذ ظهر لي أن أزيل غشاوة التضليل عن أعين القراء؛ إن القول بأن الاتحاد مفسد لنا في جميع المستويات المتعلقة بالحكم والمتعلقة بالمجتمع هذا مفسدة”، وكأنه مال إلى الاحتكام إلى التمدين، وظهرت حينها مغالطات، ومنها قول البعض بأن المجتمع المغربي ذاب في الحضارة الرومانية، ففند ذلك وقال لهم إن الفاتحين عندما جاءوا وجدوا قبائل بربرية صنهاجة وكتامة وزناتة، ولم يذوبوا في الحضارة الرومانية بل كانت لهم أصولهم البربرية. رافضا للاندماج. لقد عمل العلامة مبارك الميلي جاهدا على محاربة كل أشكال الانحراف والشعوذة والتمسخ، وأراد تصحيح عقائد الناس، وأدخل بابا جديدا هو رسالة اجتماعية سياسية من خلال كتابه “الشرك ومظاهره”، وعن هذا الكتاب، أورد الأستاذ بوعروج إحدى الطرائف عن سفير الجزائر في النيبال، الذي التف حوله الناس وراحوا يتمسحون به بمجرد أن عرفوا جنسيته الجزائرية، ولما سأل عن الأمر قيل له إنهم يتبرّكون به لما قرأوه من “كتاب الشرك ومظاهره” للعلامة مبارك الميلي، فقال “شعب النيبال يعرف الشرك ومظاهره ونحن نجهله”. لقد كان من بين الدوافع الرئيسية التي دفعت بالشيخ مبارك الميلي لكتابة كتابه في التاريخ ثلاثية: “الإسلام أفرغ من مضمونه، والعربية أصيبت بالتدجين والتاريخ أصيب بالتحريف”. فجاء كتابه لتصحيح الرؤية التاريخية ومنهجيته في كتابة التاريخ اعتمد فيها التمحيص والمقارنة والتدقيق، التعليل والتحليل والابتعاد عن الذاتية والمصادر الأصلية . لقد وقف العلامة مبارك الميلي ضد الشعوذة والتمسح بالقبور، وقد وقف إلى جانبه شيخ الطريقة الرحمانية قاسمي صديقه الذي رافقه في دراسته إلى تونس. فهو لم يكن يعادي الطرقية، وإنما يحارب الشعوذة بكل أشكالها.
إنشاؤه لمدرسة حياة الشباب بميلة الشغف بالتعليم وتربية النشء دفع بالعلامة مبارك الميلي إلى التفكير في بناء مدرسة تكون نبراسا للعلم وقبلة للنشء، ليتعلموا العلوم الدينية والمدنية. ويحكى أنه تبرع ب40 ألف فرنك في ذلك الوقت، واشترى به منزلا بمدينة ميلة حوّله إلى مدرسة عرفت بمدرسة حياة الشباب، وقد ساهمت بعض العائلات في بنائها على غرار عائلة بن معنصر. تلكم بعض الجوانب البارزة في حياة رجل كرّس حياته لخدمة بلاده وصناعة الرجال، فوفّق إلى أبعد حد، ليبقى الدور اليوم على الخلف للحفاظ على مكاسب السلف وبناء أمة تقدس العلم وتمجد العلماء.