عندما تُستنفَر أجهزة الدولة كلُّها، ويُعلَن النَّفير العام لخوض معركة النهوض بالمُجتمع عن طريق الخَيار الديمقراطي، ثمَّ نلتفت بعد سنوات إلى الوراء فإذا نحنُ كالمُنْبَتّ، لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى، فلا بُدَّ أنَّ ثمَّة عوامل تتفاوت في أهميتها، وتتفاضل في تأثيرها، هي التي أثّرت على كفاءتنا في السَّيْر، وعلى صفاء رُؤيتنا، وأفقدَتْنا الثِّقة اللازمة في قائد القافلة، فاختار كلٌّ سبيلا يراها مناسبةً له، وأضعفتْ هذه الحال أهمَّ عنصر في عُدَّة السَّير، وهو التفكير الذي لم يَنْجُ من الفوضى التي عمَّت القافلة. وإنَّنا لا نحتاج إلى إعمال نظر طويل لنقف على معالم التفكير غير المُنظَّم، اللَّامنْهجي، والمبني على أُسس غير واضحة، وغير ثابتة، في كل مناحي حياتنا، حتى في الجامعات، أكثرِ المقامات حاجةً إلى التفكير المنهجي. والتفكير هو بدايةُ كل عمل، فإذا كان سيئا فلا نرجو من ورائه نتائج طيبة، وإذا كان صحيحاً، فإنّه يختصر علينا مسافات طويلةً جدّاً، في رحلتنا نحو النّهوض الحضاري، وهذه مسألةٌ ذات شأن بحيث حظيت باهتمام واسع جدا عند الغرب، ولا سيما مع تنامي الاهتمام بما يُعرف بعلم التنمية البشرية، والذي صار التكوين فيه عندنا مودةً يتفاخر بها. كثيرٌ من الناس، دون أن ترى له أثرا في حياتهم أو حياة غيرهم، ولعلَّ هذا العلم الذي يُعلِّمنا قواعد التفكير السليم، تَسربل برواسب التفكير المُعوجّ فقصُرت به مُميِّزاته عن تغيير حياتنا، ولا عَجَب، فقد حدث هذا من قبلُ ولا يزال مع كتاب اللّه. وإنَّ هذه الرواسب الفكرية القديمة تسلّلت إلى كل مؤسسات الدّولة، واستقرّت في عقول العامَّة والخاصَّة، وهي التي تُعرقل كلَّ مُحاولةٍ للنهوض بالمجتمع، وقد أصبحت مبادئَ يُتَّكأ عليها ويُحتَجُّ بها، فكيف يستقيمُ الظِّلِّ والعود أعوجُ؟ إنّنا نعيش فوضى في تفكيرنا، باديةً جدّاً في فشلنا في حلّ كثير من الأزمات الاجتماعية، مع أنّنا نملك كلّ الإمكانات المادية والمعنوية، وأزمة السكن مثالٌ على ذلك، فالحكومة ليست لها سياسة واضحة قائمة على أسس متينة للقضاء فعليا على هذا الإشكال، والمواطن لا يملك أسلوبا حضاريا في التفكير، وهو مَعذور وغير معذور، فصار حبُّ الامتلاك من أجل الامتلاك علامةً بارزةً في تفكيره. وتبدو هذه الفوضى أيضا في عدم استقرارنا على نُظم تعليمية واضحة ذات أهدافٍ محدَّدة، وفي اختلافنا الكبير حول المرجعية الأخلاقية التي نستند إليها في حياتنا، فكأنّنا نحيا بلا أُسُس فكرية مشتركة، فاتّخذ كلّ مواطن له مرجعية خاصّة به، ولا تقبل النقاش عادةً، لأنّنا لا نُجيد الحوار. ومن صور فوضانا التفكيرية، أنّنا نُقدِّس التاريخ، ونُقدّس المُنشآت، ونُقدّس الإجراءات، ولا نُقدّس الإنسان، وعِوض أن تخدم الإجراءاتُ والقوانين الإنسانَ، أصبح هو في خدمة النصوص القانونية. وهذه الفوضى قائمةٌ أيضاً، في تطبيقنا نظاماً ديمقراطياً بروح استبدادية. ولو رُحنا نَسرِد أمثلةً على هذه الفوضى لطال بنا الحديث، ولكنّي أتساءل: أهي فوضى مقصودةٌ لذاتها ومُخطّطٌ لها؟ أم هي من الخسائر الجانبية غير المقصودة؟ ومهما يكن، فإنَّ إزالة هذه الفوضى ضرورةٌ لا فِكاك منها، لأنّ كثيرا من مشاكلنا المستعصية لا يحتاج حلُّها إلاَّ إلى تفكيرٍ مُنظَّم، ولا أظنّها مسألةً تخفى على أصحاب الشأن في بلادنا، فلماذا تتّجه كثير من السياسات المُعتَمَدة في تسيير شؤون البلاد، نحو تكريس مزيد من الفوضى في عقولنا؟ أليست مَثلبةً في حقّنا أن يتخرّج الشّابّ من الجامعة وهو لا يتمتّع بطريقةٍ صالحة في التفكير؟ فيُصبح كلّ همّه أن يتحصّل على وظيفةٍ قارّة، ثمّ زوجة ومَسكن، ولا شكَّ أنَّ الأجيال التي تتكوّن على هذا النّهج، تُصبح غيرَ مؤهّلةٍ لقيادة البلاد، فضلا عن عجزها على تقديم أفكار نهضوية جديدة. إنّ التفكير السّليم هو عُدَّة أي نهضة، ولقد قامت الحضارة الإسلامية العظيمة على ثورةٍ فكرية هائلة، غيّرت الأساليب، والمضامين، والأهداف، تحت قيادةٍ راشدة ذات رؤيةٍ واضحة، وليست السُّلطة وحدها هي المعنية بهذا الشّأن، لكن عندما تتخلّى السّلطة عن توجيه رعيتها التوجيه الصّحيح، فإنّه يجدُر بالفَرد أنْ لا يستقيل من تأدية دوره الحضاري، على الأقل في حقّ نفسه وأبنائه، لأنّ المواطن في حقيقة الأمر هو أساسُ البناء وهو نفسُه مِعولُ الهدم. [email protected]