الصراع القائم بين الأجنحة المشكلة أو تلك المدعمة للسلطة، لم يعد من الأسرار الملفوفة بتحرير الخطاب الدبلوماسي. على الأرض نلاحظ تقدم نفوذ سلطة المال، وبخطوات ثابتة، نحو تألقه وزيادة نفوذه. فقد أصبح للباترونا نقابة قوية يسرع إليها الوزراء. لا يتركون أربابه ينتظرون، ولكن هم الوزراء من ينتظرون. أصبح للباترونا نقابة تجذب إليها سفراء الدول المؤثرة بحثا عن تفاصيل تساعدهم في تحليل تجاذبات الحكم في الجزائر. واستباق قراءة التطورات الممكنة الوقوع في المستقبل القريب. ليس القلق من انهيار أسعار النفط هو ما يشكل المشكلة على الجزائر. فذاك عامل يؤثر على السلطة بدرجة أولى. لكن ما يؤثر على الدولة، أي على المواطن وعلى المؤسسات ووحدة التراب الوطني، هو استمرار تسيير الشأن العام بأسلوب متعالٍ وميكانيكي يرصد الفعل الآتي صداه من المجتمع، ليرد عليه برد فعل، في شكل قرار سياسي يتم اتخاذه داخل مجلس وزاري مصغر، بعيدا عن الإطار الذي يقدمه مجلس الوزراء ومجلس الحكومة. ويمكن قراءة قرار إجراء تقسيم إداري جديد للجنوب برد فعل باهت لمطلب ساخن يطالب بحوار مفتوح حول استغلال الغاز الصخري. قد تستفيد منه السلطة اليوم وتوظفه كأداة تنقذ بها نفسها من ورطة العجز المتكرر في بناء اتصال مع المجتمع. لكنها لا تستغل المشكلة لفتح آفاق جديدة تبنى على الإقناع والرضا. أحيانا يكون الخيال هو ما يعبر بصدق عن الواقع. ففي قصة الملك “لير” الذي جردته بناته من ملكه، ظل مقتنعا بأنه الملك لمجرد استمرار خادمه “كنت” في مناداته “يا صاحب الجلالة”. فلا يكفي تمرير صورة لرئيس أقعده المرض للقول إن رأس البلاد تشتغل بشكل عادي. ولا يكفي الاعتماد على البروتوكول، بتدبير اجتماع يحضره بعض الوزراء، من أجل بث صور متحركة عن سلطة تائهة. سيقول أكثر من خبير غير منحاز سياسيا إن المداخيل الضخمة لم تنفع لجر البلاد خارج مستنقع التبعية في الغذاء، وفي الملبس، وفي الدواء أو التعليم. بل الضبابية السياسية، وتعويض عمل المؤسسات بشبكة علاقات، هو ما عبد الطريق ليكون المال الوفير عاملا جارفا للأخلاق العامة نحو مستنقع الفساد. ربما تنزعج السلطة من تقارير منظمات دولية تكتب عن واقع تدهور الحريات، أو عن خنق الصحافة، أو عن استمرار تدني مستوى التعليم. فالسلطة التي تستقبل ممثلي ومبعوثي تلك المنظمات (وهي ممثلة فيها كلجنة حقوق الإنسان) تضع نفسها في حرج علني عندما تتهم معارضيها بالخيانة أو بالتخابر لصالح نفس تلك الجهات الأجنبية. ولا تجد كيف تفسر أن يقوم سعداني باستقبال نفس ممثلي المنظمات والسفراء، أو حين يخاطبهم حداد بصفته رئيس نقابة الباترونا؟ نشعر بوجود داخل أجنحة السلطة خليطا، لا طموحاته ولا بعض أهدافه تقبل المزج بينها. صراع يعبر عن نفسه اليوم من خلال تنافس بين المال وبين السياسي. وعبر علاقتهما مع الذين يتحكمون بالأزرار الأمنية. فإلى وقت قريب، تميزت تلك العلاقة بالتبعية التامة لأصحاب الأزرار. والمخاض الجاري قد يفضي إلى بناء علاقات جديدة بين السياسي والمالي وبين الأمني. لكن توقع توازن بين هؤلاء الأقطاب في ظل غياب دستور توافقي، سيكون خرافة. فالفراغات الدستورية تلملمها حقيقة الواقع. لأن الفراغات المسجلة ليس لغفلة من أمر المشرع. بل هي فراغات مقصودة، وبمثابة قاعدة قانونية يتم توظيفها لتحييز الدستور وفرض قانون موازين القوى. فالدستور من الناحية النظرية، في حالة الجزائر، هو حالة تجسد ذات الحاكم بصلاحيات غير متناهية. ومن لحظة وهن الحاكم تتوزع صلاحياته بين مراكز القرار، وفق ميزان القوى وعلاقات القوة. ويكون الجميع فوق الدستور، لأن الرئيس بحكم الواقع كان أعلى من الدستور. وهذه هي مشكلة النظام اليوم، يتآكل من الداخل تحت وقع صراع بين السياسي والمالي، أغلب الظن، تحركه رغبة أحدهما في الظفر بثقة أصحاب القرار والفوز برضاه. وللأسف، لا توجد تجربة لبلد تمكنت مؤسساته الدستورية من تصريف الشأن العام بشكل سلس وعادي وعادل، إلا وكان ذلك البلد يعمل تحت سلطة الدستور نفسه. في حين تتكرر مآسي بقية المجتمعات التي فشلت نخبها السياسية والأمنية في صياغة دستور بالتوافق والتراضي. نحن نقطع ما تبقى من طريق رحلة البحث عن بر للاستقرار. أحيانا يخيل إلينا أننا وسط بحار، ومرة نتصور أننا فوق رمال الصحراء الكبيرة. هي تتحرك، ونضلل أنفسنا، بأننا نحن من يتحرك. فالأزمة تتفاعل تحت تأثير تيارات قوى كبرى وإقليمية، ونقنع أنفسنا بأننا نؤسس لتجاذبات تقينا من خطر أطماع، أو تحمينا من تهديد إرهابي.