خاضت تركيا مشوارا صعبا وطويلا للحصول على العضوية الكاملة للاتحاد الأوروبي، حيث حصلت رسميا على صفة دولة مرشحة للانضمام عام 1999، ومنذ عام 2000 عمل البرلمان التركي من أجل إقرار ما يلزم من إصلاحات دستورية وقانونية اشترطها الاتحاد الأوروبي في إطار ما يسمى بمعاير ”كوبنهاغن” السياسية، مقابل ذلك لم تبق أوروبا على شاردة وواردة في تركيا إلا وتدخلت فيها سعيا لإجراء عمليات تجميلية تصبح معها أقرب إلى الخارطة الغربية بتفاصيلها السياسية والفكرية والإيديولوجية. السؤال المطروح لعقود هو لماذا يصرّ الاتحاد الأوروبي على رفض انضمام تركيا إلى أنجح تكتل إقليمي على وجه الأرض؟ بالرغم من امتلاك تركيا لمقومات اقتصادية، سياسية، وبشرية هامة جدا، يضاف إلى ذلك موقع تركيا الجيوبوليتكي، فهي تقع في قلب الأوراسي، حيث قال الجغرافي البريطاني هالفورد ماكيندر من يسيطر على قلب الأوراسي يسيطر على العالم، في حين نجد أن الاتحاد الأوروبي قبل عضوية بعض الدول التي إذا ما تم قياسها مع تركيا من ناحية الثقل الاقتصادي، السياسي، البشري والموقع الجغرافي نجد أنه لا مجال للمقارنة بينهما إطلاقا، فمثلا اليونان دولة ضعيفة اقتصاديا، سياسيا وحتى عسكريا شهدت أزمة اقتصادية كادت أن تعصف ليس فقط باليونان بل بالاتحاد الأوروبي كاملا، ومازالت آثارها ممتدة إلى يومنا هذا، كذلك أوكرانيا التي تعتمد على ”صدقات” روسيا لإنعاش اقتصادها.. بلجيكا، إسبانيا وقبرص والقائمة طويلة. وسط كل هذه التناقضات، أعتقد جازما أننا أمام لغز عويص، أدى إلى بروز كوكبة من المفسرين والمحللين العرب وغير العرب سعوا كلهم لحل طلاسم هذا اللغز المحير، حيث جاءت أغلب التفسيرات والتحليلات المقدمة من قِبل أعضاء الاتحاد الأوروبي في الظاهر تصبّ في اتجاهين: الاتجاه الأول: هو اتجاه لمعارضين، يقولون إن تركيا ليست دولة أوروبية بل هي جزء من الشرق الأوسط وآسيا، وبأنها سياسيا واقتصاديا وثقافيا لا تلبي الشروط الأدنى للعضوية وستكون عبئا على الاتحاد. الاتجاه الثاني: هو اتجاه المؤيدين، إذ يقولون إن العضوية ستمنع انتشار الفكر المتشدد في منطقة الشرق الأوسط، التي قد توقع تركيا في يوم من الأيام تحت سيطرة المتشددين أيضا، وبأن لدى تركيا أراضي زراعية شاسعة وأيدي عاملة كبيرة واقتصاد ينمو بسرعة ستفيد الاقتصاد الأوروبي. أما تحليلات وتفسيرات المفكرين العرب الذين حاولوا فك هذا اللغز، بتحديد الأسباب التي حالت دون انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي فهي كالتالي: السبب الأول: فصل الدين عن الدولة، حيث لا تزال مسألة الدين وفصله عن الدولة تشكل الهاجس والخوف الأول لمنظري الحضارة والسياسة الغربية الأوروبية بشكل خاص، ما يعني أنه في حال قبول نادي الاتحاد الأوروبي تركيا عضوا فيه فإنه سيتعرض لضربة قوية، بسبب دخول شعب مسلم على النقيض تماما من بقية الشعوب الأوروبية التي هي إما لا دينية أو مسيحية. وبالتالي فإن هؤلاء الأتراك المسلمين، وفق قولهم سيصبحون، ك«الصوت النشاز” في السيمفونية الأوروبية، وعليه فإن هذا العضو سيزيد من عدد المسلمين الأوروبيين ليصبحوا في الربع الأول من هذا القرن ربع سكان أوروبا، وفي هذا انتحار علماني أوروبي وزحف إسلامي متواصل يهدد القارة الأوروبية. السبب الثاني: تمكين تركيا من الالتحاق بنادي الاتحاد الأوروبي نتيجته هي أن الاقتصاد التركي سينمو نموا كبيرا، وتركيا ستكون الرابح الأكبر اقتصاديا من دخولها الاتحاد، وأوروبا قد تكون سوقا كبيرة للصادرات التركية، والأيدي العاملة التركية قد تغزو مصانع ومعامل دول الاتحاد، وكل تلك الحقوق والمميزات الاقتصادية التي ستظفر بها أنقرة ستكون مثار تساؤلات كثيرة لدى منظّري وقادة السياسة الأوروبية حول مدى استفادة الاتحاد الأوروبي من دخول دولة ستنعم وستأخذ أكثر مما ستعطي. ما يعني أن تركيا، وفي نظر هؤلاء ستكون دولة لا فائدة من وجودها، ولن تقدّم أي منافع اقتصادية لدول وشعوب الاتحاد الأوروبي بل والعكس صحيح يمكن أن تكون عبئا عليهم. وعلى الجبهة الكردية تواجه الحكومة التركية وضعا صعبا، فبسبب سياسة الإهمال المزمنة لعقود في معالجة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتخلفة للأكراد في جنوب شرق الأراضي التركية، فإن هذه المشكلة أصبحت تمثّل همّا جاثما على تركيا وطلبا ملحا لأوروبا من أجل حلّها بشكل عقلاني وعادل. ومع أن تركيا تتعهد منذ سنين بإصلاح الوضع في الجنوب الشرقي لأراضيها، بيد أنها لا تزال متقاعسة عن القيام بأي إجراءات فعلية لذلك يتوقّع المراقبون أن تتعايش تركيا مع أزمة القضية الكردية لفترة أخرى من الزمن مع استبعاد حلّ سريع لهذه القضية. هذه قراءتنا نحن العرب، لكن باعتقادي أن الأمر ليس كما حدد في هذه الأسباب، لأن الأمر لو كان كذلك لما قبلوا بدول لا أقول إنها ستشكل عبئا على الاتحاد الأوروبي بل شكلت فعلا عبئا عليه، كما هو الحال في اليونان وإسبانيا وغيرها من الدول الضعيفة، فالأمر أبعد من ذلك وأعمق. المعروف تاريخيا أن الاتحاد الأوروبي بني على أساس المصلحة، ولم يكن مبنيا على أساس اعتبارات تاريخية أو دينية أو سياسية.. هنا نتساءل، كيف يكون ذلك؟ الجواب: إن الدول الأوروبية بعد خروجها من الهمجية والغوغائية، التي عمّرت في القارة العجوز لعقود عرفت خلالها حروب سميت بحروب بالمائة سنة كانت بين انجلتراوفرنسا، كما أن الحربين العالميتين الأولى والثانية وقعت رحاها على الأراضي الأوروبية، أتت على الأخضر واليابس، عقب ذلك اقتنعت الدول الأوروبية المبنية على العقد اجتماعي، أنه ولتحقيق مصالح شعوب أوروبا وتعويض كل المآسي التي عانوا منها، لا يمكن لأي دولة أن تحقق ذلك منفردة، أو بمعزل عن الدول الأخرى، فاهتدى قادة القارة الأوروبية إلى التعاون كحل بديل للصدام والمنافسة الجوفاء، وتجاوز كل الخلافات التاريخية والسياسية بينهم، خاصة تلك المتعلقة بأعمدة الاتحاد الأوروبي: فرنسا وألمانيا. تسلسلت في هذا الطرح حتى أصل إلى نتيجة مفادها أن رفض الاتحاد الأوروبي انضمام تركيا إلى الاتحاد لا يقتصر فقط على الاعتبارات التاريخية، الدينية والاقتصادية، بل يعود إلى اختبار الاتحاد الأوروبي للمسار الديمقراطي في هذا البلد أي تركيا، فلو دققنا في قبول أوروبا لدول أوروبا الشرقية الانضمام إلى هذا التكتل بالرغم من أنها ضعيفة من كل النواحي، نجد أنه يتلخص في اعتبارين: الاعتبار الأول: يكمن في محاربة المدّ الشيوعي في المنطقة ومحاصرة روسيا وإنهاء أمر القطبية الثنائية واستبدالها بالقطبية الأحادية بزعامة الولاياتالمتحدةالأمريكية، أي ما يطلق عليه اليوم باسم ”النظام الدولي الجديد”. الاعتبار الثاني: يكمن في قبول هذه الدول تطليق الاشتراكية معها النظام الشيوعي، والدخول في كنف الدول الديمقراطية ونجحت فعلا في ذلك. أجد أن الاتحاد الأوروبي منح الفرصة نفسها لتركيا، حتى تنظم إليها، لأنه من مصلحة أوروبا ضمّ دولة هي سادس قوة اقتصادية في أوروبا ورابع قوة عسكرية في حلف النيتو وسوق استهلاكية تعدّ الأكبر في المنطقة، مثلما هو من مصلحة تركيا الانضمام لفلك الاتحاد حتى تنمو أكثر في كل المجالات، فبوصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم عام 2002 كان يبدو للغرب أنه يحمل بوادر من شأنها نقل تركيا من دولة شمولية إلى دولة ديمقراطية، وباشر الإصلاحات التي طلبها منه الاتحاد الأوروبي، كفصل السلطات الثلاث وضمان حقوق الإنسان وحقوق الأقليات الدينية والعرقية، وفصل الدين عن الدولة وحرية التعبير، فرغم كل هذه الإصلاحات التي باشرت بها تركيا، إلا أن ذلك لم يشفع لها لدى أعضاء الاتحاد الأوروبي، حيث لم يتسرع هذا الأخير في قبول انضمام تركيا، بل كان يمد لها بقدر ما تقوم به من إصلاحات مع أخذ بعين الاعتبار درجة صدق تلك الإصلاحات، بالنسبة لدول الاتحاد لا يقتصر التغيير فقط في القوانين والمواثيق حتى تصدقك، فهي تؤمن بما هو موجود على أرض الواقع. إذن النتيجة- حسب رأيي- أن قادة الاتحاد لم يثقوا كامل الثقة في حكومة حزب العدالة والتنمية، وولج إليهم الشك في مصداقية هذه الحكومة في قدرتها على تحقيق وتطبيق الديمقراطية، كما هو معلوم أن الاتحاد هو عبارة عن مجموعة من الحلقات المترابطة بعضها ببعض، فإذا حدث هناك عطب في إحدى هذه الحلقات يؤثر على بقية الحلقات، هذه هي مخاوف دول الاتحاد الأوروبي في حالة ما تم قبول تركيا غير الناضجة ديمقراطيا- حسبهم- التي قد تجلب من وراء هذا الانضمام مشاكل للاتحاد هم في غنى عنها. وبالتالي، أجد أن قضايا الفساد الكبرى التي ظهرت في 17 ديسمبر 2013 في تركيا أبانت على النوايا الحقيقة لحكومة حزب العدالة والتنمية في توجهاتها السياسية، وكشفت الغطاء عن مبادئ الحكم التي تعتمد عليها، فعكست كل ما بدأت به واعتمدت في الأخير قانون السيطرة على سلك القضاة، ومراقبة شبكة الأنترنت، والضغوط على الصحافة المعارضة لها، وفصل رجال أفنوا أعمارا من أجل استقرار تركيا، كان ذنبهم الوحيد أنهم أرادوا حماية بلدهم من كل من يستنفد موارده بطرق غير شرعية وملتوية. كل هذه التفاصيل أكدت ربما على صحة نظرية الاتحاد الأوروبي في عدم قبول دولة في فلكه غير ناضجة ديمقراطيا، قد تلحق ضررا بمصالحهم التي ناضلوا من أجلها وتجاوزوا كل الخلافات التاريخية والسياسية بينهم، ونكون أخفقنا نحن في تشخيص الأسباب الحقيقية لهذا الرفض، لكن هذا لا ينفي أن الأسباب التي أشار إليها المحللون العرب لها جانب من الحق والمصداقية.