كتبت في مقال سابق عن الصراع الدائر في تركيا بين حزب العدالة والتنمية من جهة والمعارضة ومؤسسات المجتمع المدني من جهة أخرى، بسبب قضايا الفساد الكبرى التي ضلع فيها ثلاثة أبناء لوزراء يحملون حقائب سيادية في حكومة العدالة والتنمية، إلى جانب رجال الأعمال يقال إنهم خرجوا من رحم النظام، حيث وصف آنذاك رئيس الوزراء التركي الوضع على أساس مؤامرة دبرت من قِبل الدولة الموازية التي يعني بها حركة “الخدمة” ومؤسسة القضاء وسلك الشرطة الموالية للخدمة– على حد قوله– فاتخذ بذلك إجراءات في حق كل من ضلع في الكشف عن تفاصيل قضايا الفساد الكبرى، حيث شتت الآلاف من رجال الشرطة وغيّر أماكنهم وفصل البعض الآخر، وتحويل العديد من المدعين العامين وقضاة إلى أماكن غير الأماكن التي يعملون بها وتنزيل رتب البعض الآخر، عقب ذلك أخضع السلطة القضائية إلى إمرته وفرض قيودا على شبكة الأنترنت وقيّد حرية الصحافة وحرية التعبير، وكل هذه التصرفات وصفت من قِبل الرأي العام الدولي والداخلي على أنها تتنافى مع قواعد الديمقراطية المتعارف عليها عالميا. خلال كل هذه الفترة، كثير من المتتبعين وجدوا أنفسهم تائهين أمام ما يحدث في تركيا، هل ما يقع فعلا هو مؤامرة على حزب العدالة والتنمية؟ أم أن هناك قضايا فساد سميت بالكبرى في تاريخ تركيا، إن لم أقل كل منطقة الشرق الأوسط؟ أظن الجواب على الاستفهامين يتضح بعد سماع التسجيل الصوتي المزعوم بين رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان وابنه بلال، حيث يدور كلام المحادثة حول محاولة إخفاء مبالغ كبيرة من المال غير الشرعي عن عيون المحققين. هنا يمكن أن نفهم لماذا اتخذت كل تلك الإجراءات من قِبل حزب العدالة والتنمية في حق كل من القضاة والشرطة وبعض مؤسسات المجتمع المدني، نبدأها واحدة تلو الأخرى نحللها ونضعها في سياقها الزمني والمكاني، ونربط بعضها على بعض حتى تتضح المسألة أكثر. أولا: لماذا تم إجراء تغييرات في سلك القضاة وتنزيل رتب المدّعين العامين الذين أشرفوا على كشف قضايا الفساد، ونقلهم إلى أماكن أخرى وتعيين وزير عدل جديد وإخضاع السلطة القضائية للسيطرة الحكومة؟ الجواب: لأنه ربما رئيس الوزراء يعلم بما هو آت، ويدرك حقيقة الفساد ومدى ضلوعه هو شخصيا وعائلته فيه، فقرر إبعاد هؤلاء من أماكنهم واستبدالهم بآخرين مقربين منه، حتى يطمسوا آثار ما اقترف ويقطع الطريق عن متابعة الملف. ثانبا: لماذا تم اعتماد قانون مراقبة الحكومة للشبكة العنكبوتية وإخضاعها للسيطرة هي الأخرى؟ الجواب هو أن رئيس حزب العدالة والتنمية يعلم علم اليقين أن عليه وعلى عائلته والمقرّبين منه تسجيلات، وصفها بالمفبركة والمزيفة، ستنشر على هذه الشبكة، وبالتالي اتخاذ إجراء مسبق في حقها حتى يمنع من نشر تلك التسجيلات التي من شأنها أن ترفع اللبس والغموض عمّا يحدث في تركيا. ثالثا: لماذا تمّ معاقبة عشرات الآلاف من الشرطة وتشتيتهم بعيدا عن عائلاتهم دون أي تهمة مؤسسة ضدهم؟ الجواب لأن هؤلاء هم أداة الجهاز القضائي في تنفيذ عمليات المداهمة على من ثبت عليهم الفساد، وبالتالي إبعاد هؤلاء يضمن له تعطيل أداة القضاة والمدّعين العامين الذين كشفوا خيوط الفساد الأكبر من نوعه في تركيا، وعرقلة صيرورة المداهمات ضد الفاسدين والناهبين للمال العام التركي. كخلاصة لذلك نقول إن هذه الخطوات أتت متسلسلة ومترابطة، تهدف إلى طمس آثار الفساد، حيث هناك احتمال كبير لتورط رئيس الوزراء، رجب أردوغان، وعائلته، حسب التسجيلات الأخيرة المزعومة التي حظيت باهتمام داخلي وعالمي، وعلى المستويين الرسمي والشعبي، وبذلك قد نكون توصّلنا إلى الإجابة عن التساؤل الذي طرحته في مقالي المعنون أردوغان أنا وبعدي الطوفان، حيث قلت آنذاك إن الأيام القليلة القادمة وحدها الكفيلة بكشف الستار عن أساس هذا الصراع: أسبابه وخباياه والغرض منه، ومن هو المتآمِر ومن هو المتآمَر عليه؟ ومن المحتمل جدا أن الأيام القليلة القادمة ربما سترفع الستار عن أدلة جديدة من شأنها أن توضح الصورة أكثر عمّا يحدث في تركيا، وهل إن هذه التسجيلات الأخيرة في حق أردوغان حقيقة ثابتة أم هي خيال مصطنع؟