لم يكن النحات الفرانكو إيطالي فرانسيس سان فيدال، يتوقع على الإطلاق أن تحفته الفنية التي عرضها ذات يوم بمتحف اللوفر الباريسي للمتعة فقط، سيكون لها شأن عظيم، وستظل شامخة على امتداد سنوات طويلة متحدية كل الظروف، محتفظة بما فيها من تناقض صارخ يجمع بين طهارة مياهها العذبة وأنثى تستقبل زوارا من كل حدب وصوب مستعرضة مفاتنها. هي عين الفوارة التي نالت شهرة منقطعة النظير، فمن زارها وشرب من مياهها فسيعود حتما مهما طال غيابه وبعدت مسافاته كما تقول الأسطورة، هي معلم تاريخي احتل مكانة خاصة في قلوب الجزائريين عموما وسكان مدينة سطيف على وجه التحديد، حيث تكونت على مر السنين علاقة وطيدة بين المواطن السطايفي وعين الفوارة بمائها وتمثالها، وازدادت العلاقة قوة بعد التفجير الإرهابي الشهير الذي مسها سنة 1994، حيث سارعت سلطات الولاية حينها لترميم عين الفوارة باستعمال كل التقنيات في 24 ساعة، لتتواصل العلاقة بين هذه الفاتنة وبين زوار يقصدونها من كل مكان، وارتبطت انتصارات الوفاق المحلي بهذا المعلم، فكانت الكؤوس تعبأ من عينها ليشرب من نخبها الجميع، كما شكلت محور الحركة ومقصدا لجميع الزوار من مشجعي الفرق الرياضية والأدباء والسياسيين والفنانين وغيرهم وتحولت مع مرور الزمن وتوالي السنين لرمز حقيقي لدى الكثيرين، في حين يرى بعضهم بأن وجودها يعد وصمة عار في جبين المنطقة. روايتان.. محلية وفرنسية تفتقر القصة التاريخية لعين الفوارة تمثالا وماء، لمادة تاريخية واضحة المعالم، تمكن الدارسين من الوقوف على أسباب وجودها الحقيقية، حيث تتباين الرؤى بين روايتين واحدة محلية ذات مرجعية دينية والثانية فرنسية تجعل من الأمر مجرد صدفة. وفي هذا المقام يؤكد الدكتور بشير فايد أستاذ التاريخ بجامعة سطيف2، بأن المعلم عبارة عن تمثال لامرأة عارية، نحتت من الحجر الأبيض والمرمر، تجلس على تمثال آخر من الصخر يبلغ علوه 20م، يمثل النافورة ذات الأربع فتحات، التي تعود أصلا إلى الفترة الرومانية، حيث كانت تتزود من مياه الحمامات الرومانية القريبة منها. وقد نصب المعلم في قلب المدينة القديمة وسط ثلاثة معالم دينية هي المسجد العتيق، المعبد اليهودي والكنيسة في الساحة التي كانت معروفة باسم الساحة الوطنية، ثم ساحة الماريشال جوفري، بعد الحرب العالمية الأولى وساحة الاستقلال حاليا. 116 سنة من الوجود وقد نحتت عين الفوارة من طرف الفنان الفرونكو ايطالي فرانسيس سان فيدال الذي انتهى من إنجازها في 26 فيفري 1898، ويذكر الأستاذ روايتين لسبب وجودها في هذا المكان بالذات، حيث تذكر حسبه الرواية الفرنسية أن قصة المعلم بدأت سنة 1898م، أثناء المعرض العالمي للمنحوتات الذي احتضنه متحف اللوفر بباريس، بمناسبة مرور مائة سنة على بناء برج إيفل الشهير، حيث شاهدها الحاكم العسكري لسطيف الذي أعجب بها، فطلب من صاحبها فرانسيس سان فيدال بأن يهديها لمدينة سطيف فاستجاب لرغبته، فبدأت الرحلة في شهر جويلية 1898م، أولا من باريس إلى ميناء مرسيليا عبر القطار، ثم إلى ميناء سكيكدة عبر الباخرة، أين كان في استقبالها وفد هام من نبلاء سطيف، ليتم نقلها إلى محطتها النهائية عبر عربة تجرها الخيول في رحلة دامت ما بين 10 و12 يوما، فشكل وصولها حدثا كبيرا ومناسبة للاحتفال بالنسبة للمجموعة الأوروبية التي كانت تسكن المدينة، وإذا أردنا أن نلخص، نقول أن الرواية الفرنسية، أرجعت سبب إقامة التمثال، إلى عامل الصدفة لا أكثر و لا أقل. أما الرواية المحلية، يضيف المتحدث، فلم تهتم بسرد المحطات التي مر بها التمثال إلى غاية تنصيبه في وسط المدينة، وإنما ركزت على الخلفيات الدينية لذلك، حيث أرجعت السبب إلى أن الحاكم الفرنسي للمدينة، كان في غاية التضايق والانزعاج من وجود المصلين للوضوء في ذلك المكان كل صباح، من أجل تأدية صلاة الصبح في المسجد العتيق القريب جدا منها فاهتدى إلى فكرة نصب تمثال لامرأة عارية فوق النافورة للتخلص من ذلك الإزعاج، ولتحدي رواد المسجد العتيق الذي يقع بابه الخارجي مقابلا لها. وبمناقشة مضمون الروايتين، فإننا نلاحظ عدم كفاية المادة الخبرية الموجودة حاليا، للإحاطة بالموضوع من كل جوانبه، خاصة ما تعلق بوجود خلفيات دينية أو ثقافية من عدمها، كما أقر الأستاذ بأن الدارسين لم يتمكنوا من الحصول على إشارات، ولو بسيطة، حول موقف أو رد فعل سكان مدينة سطيف أو ما جاورها، على إقامة التمثال في حينه، أو خلال الفترة التي أعقبت ذلك وإلى غاية الاستقلال، ومن الواضح أن الروايات الفرنسية، قد تجاهلت ربما عن عمد، أية خلفية كانت وراء الفكرة مهما كانت. وفي المقابل ركزت على الجوانب التاريخية والتقنية، وعلى الرمزية المطردة التي اكتسبها المعلم مع مرور الزمن، كما أنه من المهم جدا البحث في شخصية الحاكم الفرنسي للمدينة، للوقوف على المعالم الفكرية والأيديولوجية والسياسية لهذا المسؤول، التي قد تساعد على فهم تصرفه والحكم عليه، خاصة وأن الرواية الفرنسية لم تشر إلى كون تواجد الحاكم الفرنسي للمدينة في معرض باريس للمنحوتات، كان بمحض الصدفة أيضا، أم أنه كان في رحلة مبرمجة، الغرض منها البحث عن معلم متميز يليق بوسط المدينة، ويستجيب ربما للخلفيات الدينية أو الثقافية التي كانت تدفعه إلى ذلك. ويرى محدثنا بأنه من المهم جدا طرح سؤال حول انفراد مدينة سطيف دون غيرها من المدن الجزائرية بهذا المعلم ولماذا لم تتكرر التجربة في أماكن أخرى من الجزائر، خاصة وأنه لا يمكن تأكيد أو نفي ما ذهبت إليه الرواية المحلية، بشأن قضية الوضوء، لكن في المقابل يمكن الأخذ بالرأي الثاني، وهو تحدي الحاكم للمصلين واستفزازهم. كما حاول نفس الأستاذ البحث في طبيعة ردود فعل الساكنة حينذاك فيرجعها تارة إلى كون الغالبية العظمى من السكان كانوا من الأوروبيين واليهود وتارة لعدم اكتراث السكان المحليين كثيرا بالأمر، بسبب تعودهم على وجود النافورة، التي تعود إلى العهد الروماني، حيث سبقت وجود تمثال المرأة العارية أو ربما لضعف الوعي الديني والثقافي لدى السكان، خاصة أثناء فترة ما قبل ظهور جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وامتداد نشاطها إلى المنطقة. وفي الخلاصة تساءل: هل ينبغي أن ننظر إلى القضية من زاوية ضيقة، فنسلم بفرضية الصدفة، أم من زاوية أرحب وهي السياسة الاستعمارية الفرنسية بشكل عام، فنعتبر القضية مظهرا من مظاهر تلك السياسة في جانبها الديني والثقافي؟. كما أنه من المفيد أيضا أن نتساءل: هل أن المعلم اكتسب شعبيته مع مرور الزمن من نافورته ذات الجذور التاريخية الرومانية، أم من تمثال المرأة الفرنسي الحديث، أم منهما معا.