أود من خلال هذه المساهمة الدعوة إلى الوعي وإدراك المخاطر الحقيقية والمؤكدة التي تهدد مستقبل الأمة الجزائرية ..دون تهويل أو تهريج أو خطاب عاطفي... وإنما بالاعتماد على الأدوات والمعطيات العلمية والحقائق الواقعية. كل جزائرية وجزائري عليه أن يعي ويستوعب ما يرتسم في الأفق من تهديدات له ولأبنائه. منذ سنوات تم تنبيه وتحذير المواطنين والسلطات المعنية عن طريق وسائل الإعلام من المخاطر المحدقة بمستقبل الجزائر... دون جدوى أو اكتراث أو اهتمام. واليوم.. أعرض مجددا أمام الرأي العام تحليلا مبنيا على قواعد علمية .. من خلال البوابة الأساسية لتمويل النشاطات الاقتصادية للدولة ... وهي المحروقات. صحيح أن الجزائر تتمتع في هذه اللحظة من الزمن بوضع مالي مريح في علاقاتها مع بقية دول العالم بالاعتماد على مخزون احتياطي العملة الصعبة المودعة في الخارج والتي تكفي لتغطية ثلاث سنوات من الاستيراد. لكن اقتصادها يبقى أكثر من ذي قبل هشا ضعيفا تابعا وقابلا للاندثار. إن نهاية الريع الآتي من المحروقات ترتسم بكل وضوح في الأفق ... فهي نتيجة حتمية لسياسة ميزانية تتسم بقدر كبير من التوسع والتميّع والتسيّب .. الفاقدة لأبسط قواعد الصرامة .. في الوقت الذي تسجل فيه البلاد انخفاضا في كمية الإنتاج وارتفاعا محسوسا في الطلب الوطني على الطاقة .. مما يؤدي مباشرة الى انخفاض كبير في صادرات المحروقات. هذه الصادرات التي سجلت انخفاضا ب25.6 % بين 2006 و 2011 عرفت انخفاضا آخر بلغ 10 % في 2012 مقارنة بعام 2011 . ورغم هذا تم تسجيل ارتفاع هام وكارثي في أمد قصير في نفقات الميزانية الممولة من الجباية البترولية ..وبالفعل ارتفع سعر توازن الميزانية للبرميل من 34 دولار عام 2005 الى 115 دولار عام 2011 وقفز الى 130 دولار عام 2012 . فإذا كانت أسعار الموازنة منخفضة مقارنة بتلك المحققة في الصادرات الجزائرية حتى عام 2009 فإنها أصبحت أعلى منها بشكل مخيف ابتداء من 2010، حيث أن أسعار التصدير بين عامي 2010 و 2012 كانت 80 دولارا ثم 113 دولار ثم 111 دولار .. بينما سعر الموازنة كان 88 دولارا ثم 115 دولار ثم 130 دولار، مما دفع الى اللجوء الى صندوق الضبط لتمويل عجز الميزانية. كيف كان تصرف السلطات المسؤولة عن الميزانية بعد هذا الانقلاب في المداخيل? بعيدا عن كل رشادة أو منطق أو تسيير براغماتي لاقتصاد البلاد .. اتسم تصرف السلطات بالتسيب والهروب الى الأمام . فميزانية التسيير لعام 2011 مثلا عرفت ارتفاعا بنسبة 47 % مقارنة بتلك المخصصة لسنة 2010. لقد كانت طريقة لشراء السلم الاجتماعي بثمن باهظ .. ووسيلة لتوسيع دائرة المساندين بتكلفة مرتفعة بعد أحداث جانفي 2011 .. والأكثر خطورة أن ذلك الارتفاع بلغ نسبة 23 % عام 2012 مقارنة بسنة 2011 . هكذا وبمفارقة عجيبة .. عندما لا تكفي مداخيل تصدير المحروقات لتغطية نفقات الميزانية نتصرف بتسيّب وتبذير أكبر مما لو كانت تلك الأسعار أعلى من سعر الموازنة. ويمكننا أن ننتظر .. دون ريب .. ارتفاعا في نفقات الميزانية في 2014 لتلبية حاجيات بيع نتائج الانتخابات الرئاسية. في هذه الحالة .. ومن أجل المحافظة على توازن الميزانية .. ينبغي أن يرتفع سعر البرميل بشكل خيالي عام 2016 الى 190 دولار .. ومن ثم كيف يمكن تغطية عجز الميزانية عندما يتم استهلاك صندوق الضبط بسرعة فائقة. تلك وضعية سوف تؤدي حتما الى خفض مداخيل ناهبي المال العام .. ولكنها لن تستثني بكل تأكيد باقي المواطنين الذين سوف يضطرون الى العيش بأسعار غير مدعمة وفي ظل سياسات اجتماعية صعبة تشهد تقليصا في نفقات المدرسة والمستشفى وقد تصل الى التقاعد.. وانخفاض مهم في انجاز الهياكل. وسوف يواجه المواطنون الذين لا ذنب لهم في إخفاقات المسؤولين عن تسيير شؤون البلد ندرة السلع في الأسواق وارتفاع الأسعار بفعل الندرة أونتيجة الانخفاض في الاستيراد في ظل تبعية غذائية مقلقة .. وهي القاعدة الأساسية والجوهرية لأمننا الوطني. وبطبيعة الحال سوف يلجا البعض الى حجة استغلال النفط والغاز غير التقليدي –غاز الشيست – فما هي حقيقة هذا الأمر.? هذا الاستغلال لن يكون له معنى إلا إذا اندرج ضمن استراتيجية للانتقال الطاقوي تعتمد على منظومة متوازنة ودائمة توفرها مصادر الطاقة المتجددة: الشمس تحويل الهيدروجين..الخ هذا الانتقال الطاقوي يتطلب الوقت والمال ويمس العرض أي المصادر الجديدة لانتاج الطاقة والطلب أي النموذج الجديد للاستهلاك، مما يستلزم على المجتمع بالضرورة اختيار أنماط من السلوكات والتصرفات الجديدة. وسيكون من السذاجة، بل من المجازفة بمستقبل الأمة اللجوء إلى تعويض استعمال مصادر غير متجددة بأخرى غير متجددة، دون حساب ذلك ضمن استراتيجية كاملة لتنمية جديدة، لذلك أنبّه الى أن التحدي كبير وصعب. في البداية علينا إيجاد مصادر طاقوية جديدة تلبي حاجيات الطلب الوطني وكذا وسائل جديدة لتمويل استيراد السلع وميزانية الدولة. ثم بعد ذلك النجاح في مرحلة الانتقال الطاقوي من خلال اللجوء الى لامركزية الطاقة كمصدر للرفاهية الجوارية، مما يدفع إلى خلق مجتمع مستقر مستقل ومتوازن واستعمال أفضل لمساحات الإقليم الوطني.. ويمكن أيضا من استغلال هذه المصادر الجديدة للطاقة كمحرك لتطوير التكنولوجيا الدقيقة تتحكم فيها الكفاءات الوطنية. حتى وإن لم يكن لدينا قلق فيما يخص مصادر البترول وغاز الشيست، فإن استغلالها من الناحية التقنية والاقتصادية لن يكون في متناولنا أو مطمئنا بقدر كبير. فلا بد من الإشارة إلى الانخفاض السريع لإنتاج هذا النوع من الآبار العمودية والأفقية، فإنتاج البئر المستغلة في السنة الثانية لن يتجاوز 30 % من قدرته الأصلية في السنة الأولى وفي السنة الثالثة لن يتجاوز 20%. وبمعنى آخر، فإن إنتاج مثل هذه الآبار سيكون ابتداء من السنة الثالثة أقل من خمس الإنتاج المسجل في السنة الأولى. هذه المعطيات المستخلصة من حقيقة تجارب البلدان التي تستغل حاليا هذه التكنولوجيا، تؤكد أنه في مكان البئر التقليدي الواحد الحالي لا بد من حفر العديد من الآبار العمودية والأفقية، وأن قيمة شراء حفر هذا النوع من الآبار تفوق على الأقل خمس مرات سعر الآبار العمودية الحالية. وإذا كان لا بد من انتظار تعميم استعمالها عبر العالم كي يتم إنتاج كمية هامة من آلات حفر هذه الآبار.. مع توقع عدم قدرة الصناعة على مواجهة الطلب حينئذ.. فإن ارتفاع قائمة الانتظار الطويلة لتسلم الطلب تشكل عائقا إضافيا. ومن الناحية الاقتصادية .. عندما تتمكن الجزائر من تجاوز العوائق التكنولوجية للإنتاج، فإن هذه المصادر الجديدة للمحروقات سوف تكون مستغلة في أغلب البلدان التي تفوقنا تطورا وتحكما في تلك الوسائل التقنية في أوروبا وآسيا وأمريكا وستكون آنذاك المواد البترولية متوفرة في جميع أنحاء العالم وبالخصوص في الدول التي تشتري إنتاجنا الحالي من المحروقات التقليدية. وفوق كل هذا يجب أن نعرف أنه يستحيل الدخول في سياسة متوازنة لتغطية كل حاجاتنا من الطاقة من خلال البترول والغاز غير التقليدي دون أن تكون لنا القدرة على التحكم في صناعة حفر الآبار على الصعيد الوطني. ومن جهة أخرى، فإن الكميات الكبيرة المعروضة في السوق من قبل أغلب الدول سوف يؤدي حتما الى خفض الأسعار، بينما تكلفة الإنتاج بالنسبة لنا سوف تكون جد مرتفعة. فباستعمال المحروقات غير التقليدية .. موازاة مع ارتفاع الكميات المعروضة منها في السوق الدولية .. سنكون في أفضل الأحوال في وضعية منطق الاكتفاء الذاتي. إن سعر الغاز في الولاياتالمتحدةالأمريكية بلغ 2 دولار عام 2012 بينما تكلفة الإنتاج كانت في حدود 5 دولار في نفس السنة. اذن, من أين سيجد بلدنا مصادر لتمويل الواردات الغذائية وميزانية الدولة اللذان سيشهدان ارتفاعا محسوسا دون إعادة بناء أساسية وهيكلة وتوجيه جديدين للاقتصاد الوطني?? لأنه لن يكون هناك شيء اسمه الريع. إن استيراد السلع والخدمات انتقل من 11.92 مليار دولار أمريكي في 2001 الى 65.5 مليار دولار أمريكي عام 2013 يضاف لها حوالي 8 مليار دولار أمريكي تمثل أرباحا معادة..أي أن مجموع الأعباء السنوية لعام 2013 بلغت 73 مليار دولار على ميزان الحسابات الجارية التي يبدو ختامها إيجابيا. لكن الواقع أنه انخفض من 20 مليار دولار عام 2011 الى 2 مليار دولار عام 2013 وسوف يكون باحتمال كبير في وضعية سلبية فيما بعد. لقد دخلنا في مرحلة جد خطيرة .. هي مرحلة تآكل وانخفاض حجم الريع. وان الاستمرار في تسيير الاقتصاد الوطني بنفس سياسة التسيب والتبذير والفساد المتبعة حاليا سوف يرهن مستقبل الأمة بكاملها. وعليه وبالاعتماد على الارقام والحقائق العلمية التي لا تكذب، فإنه لا بد من مصارحة انفسنا بالقول انه حان الوقت للاستعداد لمواجهة سنوات عجاف بدأت ترتسم ملامحها في أفق غير بعيد. لا يمكن لبلدنا أن يستمر في العيش دائما على آمال مؤجلة ولا أن يظل شعبنا مغيبا عن معرفة الحقائق المؤلمة التي تنتظره. إن استعادة مصيرنا المختطف بين أيدينا غير قابل للتأجيل على الإطلاق كي نواجه المخاطر المؤكدة المحدقة بنا كأفراد وكشعب وكدولة يتعلق مصيرها السياسي والجغرافي والوجودي بمدى قدرتنا على وقف حالة الانهيار الكلي ووضع حد لمسار العبث والاستهتار بمقدرات الأمة ومصيرها. فلنمد أيدينا الى بعضنا كي نقف في وجه ما يهدد وجودنا كدولة وكأمة.. ولنسر على درب بناء الجزائر المنتصرة متوجهين بثبات وقوة نحو المستقبل .. إنها لحظة التفكير في مستقبل ابنائنا ..فلتكن لنا الثقة في أنفسنا..ولتكن لدينا فقط شجاعة أحلامنا. ماي 2014