هل ساهمت مسألة تناول قضايا المسكوت عنه (الطابوهات) في تقريب الثورة من الأجيال الجديدة، أم بالعكس ساهمت في إبعادهم عنها؟ هل أدى التباين الصارخ بين ما ينشره الفاعلون والحقائق التي يقدمونه، وبين ما هو موجود في الكتب المدرسية إلى وقوع الشباب في حيرة من أمرهم؟ هل يجب الاستمرار في تناول هذه القضايا رغم ناقوس الخطر الذي أصبح يدقه بعض المهتمين بقضايا التاريخ، والذين يطالبون بالتفريق بين ما يرد في المذكرات، وبين ما ينشره المؤرخون؟ طرحت “الخبر” هذه الأسئلة على عدد من المؤرخين والمهتمين بالكتاب التاريخي، ولمست منهم أن تاريخ الثورة بحاجة إلى مقاربة جديدة، تعتمد أساسا على إعطاء الأهمية لدور المؤرخ، وليس للفاعل التاريخي، ونشر اعتقاد أن الثورة قام بها بشر وليس ملائكة. وعدم تناول كل القضايا المسكوت عنها، مثلما هو الحال مع قضية “لابلويت”، من حيث تناول أسماء المجاهدين الذين تعرضوا للتصفية. الدكتور رابح لونيسي ل”الخبر” “الثورة قام بها البشر فهم يصيبون ويخطئون” يعتقد الدكتور رابح لونيسي، أن الثورة الجزائرية مثل كل الثورات عبر العالم، قام بها أشخاص لهم أنانياتهم وطبائعهم البشرية، ويتصارعون حول السلطة. وقال لونيسي في حوار مع “الخبر” إننا أهملنا ذلك عند حديثنا عنها، فتعرّضنا في البداية لهجمة الأيديولوجيين الاستعماريين الذين وظفوا “الطابوهات” بخبث لزرع الشك وضرب هذا الحدث المؤسس للدولة الجزائرية، فكان من المفروض أن نتناول نحن هذه الطابوهات منذ البداية بشكل ذكي كي لا نقع تحت نيران هذه الهجمة، لكن منعنا ذلك. كيف ترى لظاهرة الطابوهات التي تعبر الثورات، من منطلق البحث الأكاديمي؟ تعد مشكلة تناول الطابوهات في تاريخ الأمم من أعقد المشاكل التي تعانيها الكتابات التاريخية، ولا يمكن التطرق لهذه المسألة دون التمييز بين صنفي هذه الكتابات، فهناك كتابات تستهدف فهم الأزمات وحركية المجتمعات والدول والتوصل إلى القرارات السليمة في التسيير، مما يتطلب الصرامة الأكاديمية في البحث، لأن أي خطأ يؤثر سلبا في اتخاذ القرارات، فهنا يستوجب تناول أي طابو إن تطلب البحث ذلك دون مراعاة لأي عامل كان، لكن عادة ما تطرح مسألة تناول الطابوهات من عدمها في حالة توظيف التاريخ في بناء الأمم، فيرى البعض ضرورة تجنبها، لأنها من شأنها إثارة الحزازات بين مكونات الأمة ويؤثر سلبا على بنائها، ومنهم إرنست رينان منظر الأمة الفرنسية عندما طالب بضرورة السكوت مثلا عن مذبحة الكاثوليك للبروتستانت في سانت بارتلمي عند تلقين تاريخ الأمة الفرنسية، لكن هناك من يرى ضرورة تناول الطابوهات في إطارها الأكاديمي التاريخي البحت وإبقائها في الماضي للاستفادة من دروسها كي لا تنفجر في وجوهنا مستقبلا، وتتحوّل إلى ثقل سلبي للتاريخ يرهن الحاضر والمستقبل. وما هي قراءتك لطابوهات الثورة الجزائرية؟ بشأن طابوهات تاريخ ثورتنا، فهناك من يرى ضرورة السكوت عنها، لأنها يمكن أن تمس بقداسة الثورة ومكانتها، لكننا نرى عكس ذلك حتى في مسألة بناء الأمة، وما أدراك إذا كان الهدف فهم المجتمع وحركيته، لأننا إذا لم نتناولها نحن بذكاء وشجاعة، فإننا سنفتح المجال للعدو لاستغلالها ضدنا. وكلما بالغنا في الكتابة عنها، كلما حوّلناها إلى قضايا طبيعية، وستكون صادمة في البدايات فقط، لكنها تشبه الصدمات الكهربائية المعالجة لبعض الأمراض، وتناولها الذكي يحرر الأمة من عقدها بمرور الزمن، مثل المريض النفسي المعالج بالتنويم المغناطيسي بإخراج ما أختفى في لا شعوره إلى شعوره. وكيف يتم تناول هذه الظواهر؟ يجب تناول الصراعات ومختلف التصفيات التي عرفتها ثورتنا حتى في عملية بناء الأمة، لكن بحذر، مع إرفاق ذلك بالتنبيه إلى أن الصراعات والتناقضات المختلفة هي أمور طبيعية في كل الأمم. لكن ما يعاب هو حلها بالعنف بدل الأساليب السلمية الديمقراطية، ولهذا يجب التركيز على التصفيات لأنها هي غير طبيعية وتصوير بشاعتها ولا إنسانيتها وفضح كل محاولة تبريرها من البعض، فيجب الكتابة عن تصفيات عبان رمضان وشيحاني بشير وعباس لغرور وعمار ولد حمودة وغيرهم، وتبيان أنهم ضحايا مواقفهم أو ثقافتهم أو أيديولوجيتهم وبسبب وصراعات إختلافات، كان يجب حلها بالأساليب الديمقراطية لا بالعنف. وأي محاولة لتبريرها تعني تبرير تصفيات أخرى في المستقبل. ولتجنبها مستقبلا، يجب تناولها ونقلها للأجيال بشكل تنديدي كفيل ببناء المجتمع الديمقراطي والتعددي، ونبذ العنف في أي صراعات مهما كانت. ويجب تناول قضايا مثل ملوزة و”لابلويت”، مع وضعها في إطارها التاريخي فقط. فمثلا بشأن “لابلويت”، صحيح أنها خطة مخابراتية استعمارية محكمة، ويمكن أن يبرر البعض ما وقع فيها من استنطاقات وتعذيب بظروف الثورة ومنطقها لإنقاذها، ولو بدا ذلك تبريرا منطقيا في الظاهر، لكن رغم ذلك يجب مصاحبة هذا التبرير بتعليم أبنائنا وتنبيههم إلى أنها أساليب غير إنسانية يجب نبذها، وإلا سيأتي لنا مستقبلا من يبرر تعذيب وتصفيات تحت غطاء مصلحة الدولة ومنطقها، والأمر نفسه لحادثة ملوزة التي يجب التنديد بها مهما كان فاعلها وتناولها بذكاء، دون الوقوع في مناورات استعمارية بدأت منذ حدوثها، ولازالت إلى حد اليوم تستهدف إثارة نعرات بإعطائها تفاسير عرقية وهمية لا وجود لها في الواقع. لكن بالرغم من غموض الفاعل لحد اليوم، فهل هي نتاج صراع بين المصاليين والجبهويين؟ أم أنها فعلة استعمارية لتشويه الثورة وقادتها؟ فإننا نجد من يسكب الزيت على النار لأغراض مشبوهة كالمصري فتحي الديب وآخرين بالتلميح إلى مسؤولية محمدي السعيد والترويج أن كريم بلقاسم هنأه على هذه الفعلة، أفلا يذهب هؤلاء نفس منحى المؤامرة الاستعمارية دون وعي منهم؟ ونتساءل أيضا لماذا ضخم كافي بشكل مبالغ فيه عدد شهداء لابلويت - وأركز على كلمة شهداء -؟ فهل لكي يأخذ مكانته في التاريخ بتقزيم الشهيد عميروش؟ وما هو التناول الأكاديمي لهذه الظواهر؟ هذا يدفعنا إلى التطرق لمسؤولية بعض شهادات الفاعلين التاريخيين الذين فضّلوا خدمة ذاتهم وتصفية حسابات مع زملائهم على حساب الحقيقة، خاصة وأن جزءا من شعبنا لا يمتلك ثقافة تاريخية، ولا يعلم أن الشهادات ليست تاريخا، وتتحكم فيها عدة عوامل ذاتية، فخلقت البعض من هذه الشهادات بلبلة لدى شبابنا، خاصة أن بعض أصحابها بالغ في تضخيم آناها وأسطرة بعض الوقائع مقابل مساسهم برموز إلا لأنها اختلفت معها. هذا لا يعني عدم تشجيع كتابة الشهادات والمذكرات، بل العكس، لكن شريطة مصاحبتها بالنقد والتفكيك وتكوين مواطن يمتلك روحا نقدية عالية. ويرى البعض أن تناول الطابوهات وراء خلق بلبلة في ذهن شبابنا وتشويه الثورة ورموزها، لكن في الحقيقة ما أدى إلى ذلك هي عوامل أخرى ومنها: بعض الممارسات باسم الثورة والمناقضة لقيمها وبعض الشهادات، كما أسلفنا، وخاصة المدرسة. وأكبر خطأ ارتكب في نظرنا، هو التقديس المفرط للثورة والفاعلين فيها، لدرجة تصويرهم كملائكة لا يخطئون. صحيح أن ثورتنا تعد حدثا تأسيسيا لدولتنا الوطنية، وتعتبر من الأحداث الكبرى التي عرفتها أمتنا في تاريخها، لأنها أعادت بعث أمة كادت تندثر، وبلغت أمتنا أثناءها أقصى درجات الالتحام، مما يتطلب تبجيلها دفاعا عن دولتنا الوطنية التي انبثقت عنها، وليس النظام، فيجب التمييز بين الدولة والنظام، لكن ليس معنى ذلك إضفاء طابع الأسطورة على الثورة وفاعليها، فمن المفروض منذ البداية وضعها في إطار فعل قام بها البشر، وليس الملائكة، فهم يصيبون ويخطئون، ولهم أنانياتهم وطبائعهم البشرية، ويتصارعون حول السلطة. لكننا أهملنا ذلك عند حديثنا عنها، فتعرضنا في البداية لهجمة الأيديولوجيين الاستعماريين الذين وظفوا الطابوهات بخبث لزرع الشك وضرب هذا الحدث المؤسس لدولتنا، فكان من المفروض أن نتناول نحن هذه الطابوهات منذ البداية بشكل ذكي كي لا نقع تحت نيران هذه الهجمة. لكن منعنا ذلك، وغاب عنا أنه من المحتم عاجلا أم آجلا بفعل انتشار التعليم والاتصالات أن تظهر حقائق صادمة للجزائري، وجاء بعضها على يد فاعلين تاريخيين، فوقعت له الصدمة بسبب التقديس المفرط للثورة وفاعليها، لكن لو علمناه في المدرسة أن الفاعلين بشر، وأن الصراعات طبيعية في كل الأمم، وليست فتنة، فلن تحدث له أي صدمة. الجزائر: حاوره حميد عبد القادر الشباب ضحية التناقض بين تاريخ المدرسة وتاريخ المذكرات مرداسي يحذّر من “خصخصة” التاريخ اعتبر الباحث والمؤرخ، عبد المجيد مرداسي، أن الجزائر دخلت مرحلة جديدة في كتابة تاريخ الثورة، قائلا إن العنصر الجدير بالذكر فيها هو تحرير الكلمة، إلا أنها ستكون صعبة، لأنه تم فيها الخروج من أكاذيب الدولة وفبركة التاريخ. أكد الدكتور عبد المجيد مرداسي، في حديثه مع “ الخبر”، أن كتابة التاريخ خلال العشرية الأخيرة تحوّلت إلى ظاهرة خطيرة، تتعلق بخصخصة الذاكرة المتعلقة بالفرد والابتعاد عن الذاكرة الجماعية، حيث أصبح كل شخص يتحدث عن نفسه فقط وعن محطات مرتبطة به، جعلت التاريخ في حالة ازدحام، وهي الشهادات نفسها التي كانت ستسمح بإنجاز عمل تاريخي دقيق وشامل في حال استغلالها. وكشف مرداسي في سياق الموضوع، أن بعض المؤرخين الجزائريين قاموا بإحصاء المذكرات التي نشرت مؤخرا وتناولت السير الذاتية وبعض الأحداث التاريخية، حيث تم الوقوف عند عدد 300 إلى 400 مذكرة، هذه الأخيرة نشرت من طرف قدماء الضباط المنتميين لحزب جبهة التحرير الوطني، إلا أن أغلبهم، حسبه، من الضباط متوسطي الدرجة، ماعدا مذكرات علي كافي الذي كان قائدا للولاية الثانية وتكلم عن بعض الاختلافات. وعن تأثير الانفتاح على التاريخ، وذكر بعض الطابوهات وتأثيرها على الشباب، وقال إن أكبر دليل على أن الشباب غير مرتبط بتاريخه حتى قبل هذا الانفتاح، هو يوم رجوع الرئيس المغتال محمد بوضياف بتاريخ 16 جانفي 1992، في ذلك الوقت لم يكن أغلبية الشعب، خاصة الشبان منهم، يعرفونه أو يتحدثون عن تاريخه بفعل الحصار المضروب على الشخصيات التي وضعت بصمتها خلال الخمسينات، والتي تعرضت للإقصاء التاريخي، مضيفا أن المجتمع يطالب بطريقة ملحة بمعرفة التاريخ بعد الحديث عن هذه المذكرات، خاصة الشرائح الشبانية التي تجهل التاريخ وتبتعد عن الإطلاع عليه، ووجدت نفسها أمام تناقض كبير بين ما قدمته المدرسة الجزائرية التي تناولت التاريخ على حسب ما أراده النظام الحاكم آنذاك، وبين ما اتضح من حقائق خلال الآونة الأخيرة. واسترسل مرداسي قائلا: “حين نتكلم عن قضية التاريخ، فإن أول ملاحظة أكاديمية وليست سياسية، هي أنه يصعب على المؤرخ معالجة فترة تاريخية تقرب إليه، بفعل ندرة الشهادات والفاعلين وغياب الأرشيف لكي يقوم بعملية جمعه في الجزائر”، مشيرا في السياق نفسه إلى أن الخطاب التاريخي في الستينيات كان يتماشى والطبيعة التعسفية السياسية للنظام الحاكم الذي كان يوظف العنف في مراحل خاصة، كالاغتيالات والاعتقالات. وأضاف أن: “كل التواريخ المهمة في تاريخ الثورة الجزائرية، على غرار اتفاقية إيفيان، وقّعتها شخصيات مؤسسة للجبهة. إلا أن النظام بعد 1965 قام بشطبها، حيث أن الفرقة التي تولت السلطة وراء بن بلة، تقريبا كلها لا تملك الشرعية في الحركة الوطنية وهياكل حزب جبهة التحرير الوطني، على غرار الرئيس الراحل هواري بومدين، والرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة، لأنهم لم يكونوا من مسيري الثورة ومؤسسيها، وبرروا وجودهم في السلطة باستعمال القوة إلى طبيعة الكفاح لحزب جبهة التحرير”. وأوضح المؤرخ أن المرحلة الجديدة التي وصفها ب”الصعبة”، تحتاج إلى معرفة أكاديمية لا تزال مطروحة لحد الساعة بسبب القطيعة مع التاريخ ووجود أقلية من المؤرخين باللغة الفرنسية، الذين تتجاوز أعمارهم 60 سنة، مع غياب التواصل بين الأجيال المتخرجة من المعاهد الجزائرية الذين لا يزالون مرتبطين بخطاب الستينات، إلى جانب القطيعة اللغوية. وألح مرداسي على ضرورة الخروج من السطحية، والأحكام، لأن التاريخ، حسبه، لا يحكم، وإنما يسجل الذاكرة، والمؤرخ ملزم بتبليغ التاريخ، لأن الشعب لا يحتاج إلى أسطورة، وإن كانت معرفته مقيدة لغياب الأرشيف في الجزائر. وأوضح في الموضوع ذاته، أن الحديث عن أخطاء الثورة لا يعني الاستثنائية، لأن جميع الحركات الثورية فيها هذه الجوانب الخفية، كما أن كل المؤسسات السياسية كان لها رهانات حول السلطة وليست من خصوصية حزب الأفالان. قسنطينة: ن.وردة الدكتور مصطفى ماضي ل”الخبر” “مارست الرقابة على كتب تناولت لابلويت” يعتقد مصطفى ماضي، أستاذ السوسيولوجيا بجامعة الجزائر 2، أن مسألة الطابوهات تحمل في طياتها جوانب سلبية، منها مثلا طريقة تناول قضية “لابلويت”، حيث لا يمكن ذكر أسماء من حوكموا خلالها وتعرّضوا للتصفية تجنبا لخدش شعور أبنائهم. هل يمكن القول إنه يوجد جانب ايجابي في تناول ما يسمى بطابوهات الثورة؟ أكيد... هناك جانب ايجابي في تناول كل ما هو محرم أو طابو، سواء بالنسبة للمجتمع أو الثورة. تناول المحرمات معناه رفض استعمال الرموز والدوران لمواجهة قمع الرقابة. خلال السبعينيات، أيام كنا طلبة في الجامعة خلال المرحلة البومدينية، أيام الحزب الواحد والفكر الواحد والميثاق الواحد واللغة الواحدة والتاريخ الواحد، والمشوّه، كنا نرفع عاليا كتاب بوعلي ياسين الكاتب والمثقف السوري الشجاع والجريء الذي تناول فيه الثالوث المحرم: الدين، الجنس والسياسة... أيامها كنا نعيش زمن الخطوط الحمراء التي لا تسمح لنا بتجاوز التاريخ الرسمي، حيث كان تاريخ الثورة أكبر الطابوهات السياسية. الكل يعرف أن تاريخ ثورتنا المجيدة قد زوّر وشوّه وأصبح هو التاريخ الرسمي الذي درس في مدارسنا وجامعتنا، لا لشيء إلا لأن المصلحة السياسية للعديد من الفئات كان أساسها التاريخ المزوّر. من كان يتجرأ ويتناول مسألة اغتيال عبان رمضان مثلا، ومن كان يستطيع التفوّه بقضية “لابلويت” أو العصفور الأزرق، بل من كان يتجرأ على انتقاد الوجود التركي في الجزائر. كثيرة هي الكتب التي سحبت من السوق وصودرت بسبب تعرّضها لبعض القضايا الحساسة في الثورة آذاك. أعتقد إذن أن تناول ما يسمى بطابوهات الثورة، هو ايجابي في الأساس إذا أردنا كتابة تاريخ ثورتنا العظيمة. هم يعرفون هذه الحقيقة جيدا، وإلا لماذا حاولوا في العديد من المرات، حسب تعبيرهم الرسمي، “إعادة كتابة التاريخ” وسخّروا لهذه القضية أموالا باهظة. وبدون نفاق، أقول إن كسر الطابوهات مسألة أساسية إذا أردنا بناء جيل صلب ومثقف. ولولا كسر الطابوهات، لبقي مصالي الحاج رائد الوطنية الجزائرية من المحرمات السياسية في تاريخنا الرسمي. عندما قمت بترجمة كتاب بنيامين سطورة “مصالي الحاج رائد الوطنية الجزائرية” في نهاية الثمانينات اتهمت باتهامات خطيرة وقاسية. وعندما أشرفت على نشر مذكرات الرائد لخضر بورڤعة “شاهد على اغتيال الثورة” في بداية التسعينيات، نعتوني بالمعادي لبومدين، لا لشيء سوى أن صاحب المذكرات تعرّض لممارسة التعذيب ضده وهو سجين النظام. وتناول قضية محمد شعباني. هذه كانت بداية كسر الطابوهات في ساحة النشر. ما هي التأثيرات السلبية بعد تناول هذه الطابوهات منذ مطلع التسعينات؟ بالنسبة لي... التأثيرات كلها ايجابية بدون سلبيات تذكر. دور المثقف دور نقدي أينما كان، سواء في الجامعة أو في مؤسسات ثقافية وعلمية، حتى الرسمية والعليا منها. وهل يعقل أن يبقى قبر عميروش والحواس مجهولا بعد أكثر من أربعين سنة من الاستقلال، لو لم تكسر الطابوهات وتكشف الحقيقة ونتحرر من الخطوط الحمراء التي كنّا نخاف منها؟ كنّا لا نتجرأ حتى على تناول الدور الايجابي لبعض فئات البرجوازية الجزائرية في الحركة الوطنية وثورة التحرير، وهذا باسم التاريخ الرسمي والخطوط الحمراء المفروضة. وبعد كسر الطابوهات من قبل بعض الذين كتبوا مذكراتهم من الفاعلين، تأكدنا بأن كتابة التاريخ ليست فقط بالأبيض والأسود، كما يقال. بعض مثقفي السبعينيات كانوا “كتبة” السلطان، بحيث لا يكتفون فقط برسم الخطوط الحمراء، بل اجتهدوا في عقلنتها وشرعنتها، وأصبحوا موظفين لدى السياسيين وشبه الأميين الحزبيين. والأكثر من ذلك، كونوا شبكات على طريقة “سكوريتات شاوسيسكو” لمراقبة كل مخترق للخطوط الحمراء، ومنها مثلا اللغة الأمازيغية، بحيث كان كل من يطالب بترقيتها وجعلها لغة وطنية، ينعت بالانفصالية، واليوم تراجع هؤلاء من الانتهازيين وكتبة السلطان وتجاوزوا مسألة الترقية ويطالبون اليوم بترسيمها... وهذا بفضل ماذا؟ أكيد بفضل كسر الطابوهات السياسية. إذن، التأثيرات هي أساسا ايجابية بالنسبة للمجتمع على كافة المستويات. هل يوجد لحد الآن مسكوت عنه في تاريخ حرب التحرير؟ لغاية اليوم، وبعد خمسين سنة من الاستقلال، يوجد الكثير من القضايا المحرمة أو المسكوت عنها، غير أنني لا أشاطر مثلا رأي المطالبين بفتح ملفات حساسة، لأنها تمس بالوحدة الوطنية وتثير بعض القضايا المحرجة كمسألة ملوزة مثلا، أو ذكر أسماء بعض الذين مارسوا التعذيب والتنكيل ضد مجاهدين شجعان ومخلصين خلال عملية “لابلويت”. عن هذه القضية الأخيرة، يمكن تناول المسألة دون ذكر الأسماء، حتى لا نمس شعور أبناء الضحايا. علينا أن نتصور موقف الابن الذي يعتقد أن والده قد استشهد في معركة ضد العدو، بينما يكتشف أنه استشهد وهو يعذب من قبل أخيه المجاهد الفلاني. أنا شخصيا رفضت العديد من المخطوطات، لأنها ذكرت الأسماء، نعم مارست الرقابة على هذا النوع من الكتب، أقولها بدون أي عقدة. الجزائر: حاوره ح. عبد القادر الدكتور بشير فايد “الشهادات الأخيرة هزت ثقة الخلف في السلف” يرى الدكتور بشير فايد، رئيس اللجنة العلمية لقسم التاريخ بجامعة سطيف 2، أن ما كتب من شهادات ومذكرات وما تبعها من توزيع مجاني لتهم الخيانة والعمالة للمستعمر بين صناع الثورة التحريرية، قد هز ثقة الجيل الحالي هزا في سلفه، فهو لم يستوعب كل هذا الجدال البيزنطي، داعيا لضرورة كتابة تاريخ لشعب ولأمة، وليس تاريخا لأشخاص. يعتقد الأستاذ بشير فايد أن حصيلة الشهادات حول الثورة التحريرية، بعد مرور خمسين سنة عن الاستقلال، ضعيفة جدا كما وكيفا، سواء تلك التي أشرفت على تسجيلها هيئات رسمية، أو التي جاءت على شكل مذكرات، بالنظر إلى عظمة الثورة الجزائرية، التي اعتبرت من أكبر الثورات في التاريخ الحديث من جهة، وشح المادة التاريخية حولها، والتي تعتمد بشكل أساسي على بعض الأرشيف الاستعماري الفرنسي المتاح للفرنسيين فقط، ومذكرات القادة العسكريين والجنود، والأقدام السوداء من جهة ثانية. وأعرب المتحدث ذاته عن أسفه الشديد على الخسارة الكبيرة التي تكبدتها الذاكرة الوطنية الجزائرية، برحيل أعداد هائلة من قادة جبهة وجيش التحرير الوطني، ومجاهدين ومناضلين، وحتى أشخاص بسطاء، دون أن يكتبوا مذكراتهم أو تسجل شهادتهم، فهي، حسبه، بمثابة خسارة فادحة، من منظور مؤرخ، الذي يعي جيدا أن بقاء وهج الثورة في أذهان أجيال المستقبل، لن يكون إلا من خلال قاعدة خبرية متينة وثرية، تؤسس لمدرسة تاريخية جزائرية، تتولى مهمة كتابة تاريخ الثورة الجزائرية على أسس علمية، بمعزل عن المدرسة التاريخية الفرنسية، المنسجمة في عمومها مع الأطروحات السياسية الفرنسية الرسمية، التي تمجد الإرث الاستعماري قولا وممارسة. وقال فايد: “نحن كجزائريين بشكل عام، لدينا بعض اللبس في التعامل مع المذكرات والشهادات، حيث ننظر إلى أصحابها على أساس أنهم يكتبون التاريخ، وهذا خطأ، وربما هذا هو السبب الذي يؤدي لاندلاع خصومات ونزاعات، تنتهي عند المحاكم، تشوه رمزية أصحابها في أذهان الشباب، فتهتز تلك الصور الجميلة التي ترسخت في خيالهم عن الثورة والثوار. والحقيقة أن تلك المذكرات والشهادات، ليست تاريخا بالمفهوم الأكاديمي، وإنما هي مادة خبرية مكملة للتاريخ، الذي يكتب من مصادره الحقيقية”. وظهرت، حسب الأستاذ فايد: “الكثير من المذكرات والشهادات، التي كتبها قادة وسياسيون من الصف الأول وضباط ومسئولون من الصف الثاني، وحتى الثالث. وبالرغم من عيوبها، فهي مهمة جدا، لأنها جاءت لتملأ فراغا رهيبا في هذا المضمار، وشكّل بعضها إضافة هامة خاصة في تلك القضايا التي لا زال يلفها الغموض. لكن ومع ذلك، فإن بعضها أحدث نتائج عكسية، خاصة تلك التي صدرت عن قادة تولوا مهاما ومسؤوليات مؤثرة في الأحداث، بتشكيكهم في بعض المسلمات، أو بإيرادهم لمعلومات جديدة أو روايات مغايرة... الخ، الأمر الذي دفع بالبعض إلى اعتبارها معول هدم لرمزية ومكانة الثورة التحريرية محليا وخارجيا، فدعا إلى توقيفها والحجر على أصحابها”. ويرى الدكتور فايد بأنه من المؤكد أن تلك المذكرات والشهادات، التي تخلّف وراءها جدلا كبيرا، لا تؤثر على قناعات الذين عاشوا الفترة الاستعمارية بشكل عام، والثورة التحريرية بشكل خاص، لكنها في المقابل، هي ذات مفعول شديد على الجيل الحالي والأجيال التي تليه، الذي لا يستوعب كيف يوزع بعض رموز الثورة على بعضهم البعض مجانا تهم الخيانة والعمالة للمستعمر. وختم فايد قائلا: “ثمة قاعدة ذهبية في كتابة التاريخ، وهي كتابة تاريخ الشعوب والأمم والجماعات، وليس الأشخاص. فكلما ركزنا على الأولى وابتعدنا عن الثانية، تجنبنا ما يحدث عندنا في السنوات الأخرى من جدل ضرره أكثر من نفعه، بمعنى السعي إلى كتابة التاريخ الذي يجمع ويوحد، وليس الذي يفرق”. سطيف: عز الدين ربيقة الدكتور لوصيف سفيان “ردود فعل بعض الفاعلين لا تؤسس للمدرسة التاريخية الجزائرية” وصف الدكتور لوصيف سفيان، من جامعة سطيف 2، المرحلة الحالية، بمرحلة ردود الفعل التي لا تؤسس إطلاقا لمدرسة تاريخية أصيلة، التي تبقى في حاجة ماسة حاليا لباحث كفء ومنهج علمي ومناخ حر، يتقبّل فيه الجميع النقد البنّاء بصدر رحب. يرى الأستاذ لوصيف بأن السنوات الأخيرة عرفت تزايد حدة الجدال التاريخي بين من كانوا بالأمس قادة الثورة الجزائرية في الداخل والخارج، وأضاف بأنه لا يعرف لماذا صمت الكثير عقودا من الزمن حتى يدلوا بشهاداتهم، والراجح، حسبه، أن الساحة قد خلت للكثير، لاسيما برحيل الرعيل الأول الذي فجّر الثورة، فهؤلاء المتشبعون بالفكر الثوري كانوا يدركون أنه مهما كانت قداسة الثورة ورمزيتها، فالأكيد أن لها مثالب، لكنها بحجم ضئيل لا يظهر أمام عظمة الثورة الجزائرية، منوها بمواقف محمد بوضياف، ورابح بيطاط وحسين آيت أحمد... الذين يتسمون بوسطية الطرح الذي يتلاءم والتوجه الوطني، دون قدح وذم للثورة الجزائرية، لأن من كان مشاركا في الثورة وفاعلا فيها يعرض شهادته دون الجزم وأن ما يقوله ليس اليقين، فالثورة مجهود بشري يصيب فيها المرء ويخطئ. وقال الأستاذ إن هذه الوضعية تجعل الشك يتسلل لجيل الاستقلال الذي لقنته المدرسة والجامعة الجزائرية قيم الثورة الجزائرية ونضال وتضحيات الجزائريين، فيصبح يشك في وفاء جيل الثورة وترتبك معارفه التاريخية، إذ دوريا تظهر حقائق تاريخية قد تتناقض مع ما درسه في المدرسة والجامعة، وأحيانا يسمع بشهادات تاريخية في شكل مذكرات أو تصريحات، تعتبر خطيرة وتخون الرموز الوطنية، وفي كثير من الأحيان تفتقد للقيمة التاريخية دون أن تقدم السند التاريخي أو الوثيقة التاريخية لما يقال ويكتب، حيث تسهم الكثير من وسائل الإعلام في نقل الخبر، وعلى عجل دون إدراك لمخاطره على الهوية التاريخية للجزائر وثورتها التحريرية. وذكر الدكتور لوصيف بأن: “الباحثين في التاريخ وفي مناسبات وطنية، أكدوا على مسؤولية الجميع في الحفاظ على الذاكرة الوطنية من التشويه والتزييف، فالواقع أن تزييف التاريخ هو ضعف وانهزام، ضعف من الذين لم يستطيعوا أن يدخلوا التاريخ من أوسع أبوابه، فهم يحاولون أن يدخلوا من نافذته أو من بابه الخلفي، وانهزام أمام الذين صنعوا التاريخ. ومن سوء الحظ أن التزييف يعمل عمله في طمس الكثير من الحقائق، وأنه يجني على التاريخ، فلا يظهر مستقيما أو سجلا ناصعا لمنطق الحياة، كما سارت وكما تفرضه حتمية التاريخ أن تسير. لكن من حسن الحظ أن هناك من ارتقى حسهم وترفع عن التزييف والتشويه، لأنهم قاموا بدورهم ونسبوا التاريخ إلى أبطاله، الذين أعطوا الحياة لمرحلة جديدة من تاريخ بلادهم، فهم الذين حوّلوا مجرى التاريخ ليسير وفق الخطة التي وضعوها، وهم الذين عبئوا فكرهم وقلبهم وجسمهم ليصنعوا وطنا ويخلقوا فترة من التاريخ”. سطيف: ع.ربيقة الدكتور عمار محند عامر ل”الخبر” “المؤرخون انهزموا أمام حاملي الذاكرة” اعترف عمار محند عامر، الدكتور في التاريخ وباحث في “كراسك”، بأن التركيز على وقائع تاريخية كقضيتي “لابلويت” و”ملوزة” دون سواها، واعتماد “تصريحات عشوائية لحاملي الذاكرة دون الاستعانة بالمؤرخين، كانت له انعكاسات سلبية على نظرة الأجيال الحالية لثورة التحرير”، ووجه نداء لوسائل الإعلام قائلا: “افتحوا صفحاتكم للمؤرخين من أجل كتابة التاريخ على أسس علمية وأكاديمية”. ما مدى تأثير تركيز الكتابات التاريخية على وقائع تاريخية معينة كقضية “لابلويت” و”ملوزة” والصراعات خلال الثورة على نظرة الأجيال الحالية لثورة التحرير؟ أكيد أن التركيز على أحداث سلبية دون سواها وقعت خلال الثورة، يساهم بطريقة أو بأخرى في تشكيل صورة سلبية عن الكفاح التحرري وإعطاء نظرة خاطئة عن الثورة. أضف إلى ذلك، كثرة التصريحات العشوائية لبعض حاملي الذاكرة من الفاعلين خلال الثورة، دون إخضاعها للتمحيص والتدقيق الأكاديمي من طرف المؤرخين. أنا متيقن بأن الكثير من الشهادات لو تمت بحضور مؤرخين، ما كان لها أن تنشر أو تذاع لافتقادها للحجة والقرائن التاريخية. أعترف أن حاملي الذاكرة والفاعلين هزموا المؤرخين، وعلى قلتهم، بسبب تعامل الإعلام مع شهادات غير جدية بعيدة عن الحقل المعرفي، وكأنها تاريخ مع ما يحمله ذلك من تلويث للعمل الأكاديمي، في وقت يستغرق المؤرخ سنة كاملة لنشر مقال أكاديمي واحد بعد عمل مضني وبحث في الأرشيف. كما أن الطابع النرجسي لبعض المذكرات لتمجيد الذات، ساهم في إثارة الجدل حول عدة قضايا موضع نزاع، لينتهي بهم المطاف إلى تزييف التاريخ عن وعي أو دون وعي. كما يجب الإشارة هنا إلى التهميش الذي طال مادة التاريخ في البرامج الجامعية وعدم إيلائها الاهتمام المناسب، وأحسن دليل هو العدد القليل من المؤرخين المختصين في الثورة التحريرية. هل احتكار السلطة لكتابة التاريخ بعد الاستقلال وإقصاؤها لكل الكتابات المخالفة للرواية الرسمية، هو السبب وراء تهميش التاريخ الفعلي للثورة، خاصة من طرف جماعة وجدة وجيش الحدود لتدارك نقص الشرعية الثورية؟ عشية الاستقلال سعت السلطة لكتابة الرواية الوطنية بتمجيد الثورة وايجابياتها لبناء الدولة الوطنية، مع حظر ومنح كل الكتابات النقدية للثورة، على غرار كتاب “سعداء الشهداء الذين لم يروا شيئا”، لبسعود محند أعراب ضابط سابق في جيش التحرير في الولاية الثالثة التاريخية، وهو الكتاب الذي تعرض بالنقد للثورة والصراعات التي شهدتها، لكنه كان ممنوعا من البيع في الجزائر. كانت مهمة التاريخ في منظور الحكام، هو تقوية اللحمة الوطنية وحتى شعار “بطل واحد هو الشعب”، كان يخفي وراءه محاولة لطمس مسار بعض الشخصيات التاريخية في الثورة وفضلهم في الاستقلال. وكان أول من حاول إنجاز عمل أكاديمي حول الثورة، هو المؤرخ محفوظ قداش، وتعرّض لضغوطات كبيرة من طرف السلطة آنذاك برئاسة بومدين، الذي كان يرى بأن التاريخ من اختصاصات السلطة وليس المؤرخين. كما كرّس كتاب محمد حربي “جبهة التحرير الوطني.. أساطير وحقائق” في سنوات الثمانينيات، لمرحلة جديدة في كتابة التاريخ المبنية على الدلائل والأرشيف، وساهم المؤلف في كسر العديد من الطابوهات وتحرير كتابة التاريخ من قبضة السلطة السياسية لصالح المؤرخين. وهران: جعفر بن صالح