سطور كثيرة ملأت صفحات الجرائد، وسيول من التعليقات تتدفق على مواقع التواصل الاجتماعي، ومشاهد أكثر بثتها مختلف شاشات التلفزيون العربية والأجنبية، لتنقل الواقع المرّ الذي يعيشه أهالينا في قطاع غزة. وإن اختلف تناول وسائل الإعلام المسموعة والمرئية، للحرب التي تدور رحاها في القطاع، بين متضامن مع الفلسطينيين وقضيتهم المشروعة، ومتفرج وصامت على المجازر الوحشية وداعم للموقف الصهيوني، تبقى دماء الأبرياء في أرض غزة الطاهرة تنزف، وتظل قصص وحكايات وألسنة الغزاويين تتحدث بمرارة شديدة وألم مضاعف، عن مشاهد الدمار والخراب والجثث المتطايرة هنا وهناك، بين ثنايا القطاع. أن ترى شهود عيان وتسمع شهادات حية تروي لك حكايتهم المأسوية، وكيفية نجاتهم من أهوال القيامة، تتراءى بين عينيك وتبحر في مخيلتك صور المئات من الأبرياء الذين لقوا حتفهم تحت دبابات وصواريخ العدو الصهيوني، فتكتشف في تلك اللحظة أن حجم الدمار والخراب الذي مني به الشعب الفلسطيني عموما والغزاويين بصفة خاصة، لا يمكن لعدسة أي مخرج أن تصورها، أو قلم أي صحفي أن ينقلها، وتبقى العين تدمع دما، ويبقى القلب يعتصر ويتحسر على واقعنا العربي المهين والمخزي، تجاه قضيتنا الأم. لم تشفع آلة الدمار التي حصدت الأخضر واليابس في قطاع غزة، في حال أهالي القطاع، بل زاد تعامل السلطات المصرية من جهة، والجزائرية من جهة أخرى، ألما على ألم وجرحا على جرح، خاصة بعدما أصدرت السلطات المصرية تعليمات بعدم السماح للوافدين من القطاع بدخول القاهرة، ونقلهم مباشرة إلى المطار وإبقائهم في حجرة العبور ”الترانزيت”، لحين حصولهم على تأشيرة للبلد الذي ينوون التوجه إليه، وكل وحظه. ”الخبر” اتجهت إلى مطار القاهرة بعد تأكدنا، من مصادر خاصة، من وجود عائلات جزائرية وفلسطينية وطلبة فلسطينيين، عالقين في مطار القاهرة الدولي، وتحدثنا إلى مصالح الأمن بالمطار أملا في السماح لنا بدخول قاعة ”الترانزيت”، التي تتواجد بها تلك العائلات، دون جدوى، وقيل لنا إنه ممنوع منعا باتا دخول أي شخص عندهم، سوى أعضاء السلك الدبلوماسي والعاملين بالسفارات، فحاولنا استخدام ورقة ”بطاقة الصحافة” التي استخرجناها من وزارة الإعلام المصرية، دون جدوى وباءت محاولاتنا كلها بالفشل. ”أوصي الجزائريين بالبقاء على عهد بومدين” ”دمي جزائري”، ”زهرة شبابي قضيتها في الجزائر”، ”الجزائر القلعة الأخيرة للوطن العربي وفلسطين”، ”تحيا الجزائر دائما وأبدا”، بهذه العبارات الصادقة ممزوجة بنبرة صوت كلها تحسر وألم، تحدثت إلينا السيدة ”شايقة الصوص”، أستاذة لغة عربية في التعليم المتوسط، وحال لسانها يحكي حال العديد من العائلات الفلسطينيةوالجزائرية التي هربت من هول الحرب وآثارها على القطاع، إلى القاهرة، منفذها الوحيد للتوجه إلى الجزائر. تقول السيدة الصوص: بعدما فشلنا في الوصول إليها، وهي فلسطينية الجنسية، إنها عملت وزوجها كمدرسة لغة عربية بالجزائر، وتحديدا في ولاية البليدة ببلديتي الشفة وموزاية لمدة 20 سنة، في الفترة ما بين 1975 إلى 1995، وأولادها الخمسة كلهم مولودون بالجزائر، أربعة صبيان وبنت، وتعلموا فيها إلى غاية مرحلة الثانوية. يفترشون الأرض ويتسولون قطعة خبز وجرعة ماء يختفي الصوت ثم يرجع، فيختفي ويرجع مرة أخرى، اعتقدت في البداية أن المشكلة في شبكة الهاتف المحمول، لأنني كنت أتحدث إليها من المطار عبر الهاتف. لكن وأثناء تجاذبنا أطراف الحديث، لم تخف ”السيدة شايقة” حرقتها وخيبة أملها في المسؤولين الجزائريين والمصريين، على حد السواء، وهي تروي لنا معاناتها منذ خروجها من غزة وإلى حين مغادرتها مطار القاهرة الدولي، متجهة إلى إمارة دبي عند ابنها، بعد فشلها في الحصول على تأشيرة إلى الجزائر، وقالت ”اشتغلت مدرسة في مادة اللغة العربية لمدة عشرين سنة بالجزائر، وكل الذين تتلمذوا على يدي يعملون، والحمد لله، إطارات سامية بالدولة، بعدها عدت إلى غزة مع زوجي وأولادي الخمسة المولودين بالجزائر، وكنت أذهب باستمرار إلى بلدي الثاني الجزائر لكي أقبض مرتب التقاعد، ومنذ أربع سنوات لم أزر الجزائر بسبب الظروف الصعبة التي تعيشها غزة، وكنت حاصلة على إقامة بالجزائر، انتهت مدة صلاحيتها في 2010، فوجدت اتفاق الهدنة الذي تم بين الوفدين الفلسطيني والإسرائيلي، فرصة مناسبة للخروج من غزة بعد الظروف القاهرة التي منعتني من ذلك في وقت سابق. وبمجرد دخول الهدنة حيز التنفيذ، توجهت إلى معبر رفح، وبت هناك يومين، إلى أن تمكنت من عبور المعبر بشق الأنفس. وعند وصولنا إلى بوابة القاهرة، أوقفتنا مصالح الأمن ومنعتنا من دخول المدينة، وتم نقلنا عبر سيارة مصفحة وكأننا مساجين، وأخذوا منا جوازات السفر إلى أن وجدنا أنفسنا داخل المطار، وتم اقتيادنا إلى غرفة العبور ”الترانزيت”، من دون أكل أو شراب، نتوسل للعاملين بالمطار حتى يشترون لنا ما نأكل ونشرب، وافترشنا الأرض لمدة خمسة أيام، إلى أن أصيب غالبيتها بالأنفلونزا لبرودة القاعة بسبب التكييف.. وقد تحملنا هذه المأساة، لأننا ندرك جيدا أنه إذا رجعنا إلى غزة سيصعب علينا الخروج منها مرة أخرى”. ”شجعنا الجزائر في المونديال وعلمها مرفوع ببيتي” وتضيف السيدة شايقة الصوص، وصوتها يملؤه الحزن والأسى: ”لقد تقدم ابني المقيم بدبي بطلب لي من أجل الحصول على تأشيرة دخول الجزائر، يوم 9 جويلية الماضي، موجها إلى الخارجية الجزائرية، وقد وصلت المراسلة حسب سفارة الجزائر بالإمارات في ال19 من الشهر نفسه. وعندما وصلت إلى القاهرة، حاولت الحصول إلى تأشيرة عبر سفارة الجزائر في القاهرة، دون جدوى، لأنهم منعونا من الذهاب إلى مقر السفارة، وللأسف لم أحصل على التأشير. ومع ذلك، سأظل أردد وأكرر، ستبقى الجزائر غالية وعزيزة على قلبي، وعلمها مرفوع في بيتي إلى جانب علم بلدي، وكنا نشجع المنتخب الجزائري باستمرار فترة المونديال، وأولادي كانوا يرتدون زي المنتخب ويتباهون به في شوارع غزة، ومن خلال جريدتكم الموقرة أتوجه برسالة إلى الحكومة الجزائرية، وأوصيها أن تبقى على عهد الزعيم الراحل هواري بومدين، وألا تفرط بالشعب الفلسطيني الذي عاش بأوكسجين وتمر الجزائر، وأقول لها إننا لسنا مسؤولين عن أي عمليات تخريبية، وألا تتعامل معنا كإرهابيين، لأن الجزائر بلدنا الثاني وهي القلعة الأخيرة للوطن العربي وفلسطين، ومن مصلحتنا أن تبقى قوية، وأنا أريد الذهاب إلى الجزائر حتى أحصل على مستحقاتي المالية، وأعيد بناء منزلي الذي دمرته دبابات الاحتلال، وأقول للسلطات المصرية إننا نحن أهالي غزة وعددنا 2 مليون، بحاجة لمصر والعمل والعلاج والعيش بكرامة”. وعلى الرغم من عدم تمكنها من الحصول على التأشيرة لدخول الجزائر عبر سفارة الجزائربالقاهرة، إلا أنها التمست العذر للمسؤولين بالسفارة الجزائرية، التي خصصت خلية أزمة ورقما أخضر للجالية المقيمة بغزة، وحتى الفلسطينيين الذين عملوا أو يعملوا بالجزائر ويريدون الذهاب إلى هناك، إلا أن تعامل السلطات المصرية ونقلهم مباشرة إلى المطار وعدم السماح لهم بمغادرته، حال دون حصولها على التأشيرة. خمسة أيام بقاعة العبور وبعد إنهاء المكالمة مع السيدة الصوص، تحدثنا إلى عائلة جزائرية كانت عالقة بالمطار أيضا. الأب والأولاد جزائريون والأم فلسطينية، وقد رفض أب الأسرة التحدث إلينا في البداية، كما رفض إعطاءنا اسمه خوفا من عدم منح زوجته التأشيرة، بعد مكوثهم خمسة أيام بقاعة العبور، لكن علمنا من مصادرنا أنها حصلت على التأشيرة في الأخير. وطوال حديثنا إليه، ظل يحكي لنا رب الأسرة الجزائرية عن الأيام العجاف التي قضوها بغزة، يستيقظون وينامون على أصوات الدبابات والرشاشات والصواريخ التي دمرت بيته، وجعلته يتنقل من بيت إلى آخر، بحثا عن مأوى يحميه وعائلته لحين خروجه من غزة، وأكد لنا أن هول الخراب والدمار لا يمكن لأي أحد أن يصفه، لأنه أكبر من أي وصف.. أن ترى الجثث متطايرة في كل مكان، وأخرى تحت الأنقاض يصعب على أجهزة الحماية المدنية انتشالها، وأن تشعر بعدم الاستقرار والأمان وتنتظر الشهادة في أي لحظة، بيوت ومساجد ومدارس ومستشفيات تم تدميرها، وشردوا مئات العائلات التي نزحت إلى أماكن آمنة نسبيا، وأخرى خرجت من القطاع كل إلى وجهته، بحثا عن سقف وجدران تؤويه، هكذا وصف لنا رب الأسرة الجزائرية يوميات الشعب الفلسطيني في غزة. مأساة السيدة شايقة الصوص والعائلة الجزائرية لم تختلف كثيرا عن مأساة مجموعة من الطلبة، فلسطينيي الجنسية، يدرس معظمهم بالمعهد العالي لمهن فنون العرض والسمعي البصري ببرج الكيفان. إذ وعلى الرغم من سلامة أوراقهم، إلا أنهم وجدوا صعوبة كبيرة في الحصول على تأشيرة، وبقوا لأيام بقاعة العبور ينتظرون الفرج لعدم تمكنهم من التواصل مع أعضاء السفارة واستكمال أوراق طلب التأشيرة، لكنهم أكدوا لنا من خلال كلامهم معنا أنه لا يراودهم أدنى شك في حصولهم على التأشيرة، وأعربوا عن امتعاضهم واستيائهم من عدم سماح السلطات المصرية لهم بالتوجه إلى مقر السفارة، وأخذ جوازات السفر الخاصة بهم، وقالوا متسائلين ومتذمرين ”ألا يكفينا حصار الاحتلال؟!!”. ويعقد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة آمالا كبيرة على المفاوضات غير المباشرة التي ترعاها مصر، بعد نجاحها في إقناع الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي على ثلاث هدنات متتالية، آخرها الاتفاق على هدنة لمدة خمسة أيام دخلت فعليا حيز التنفيذ سينتهي مساء اليوم الاثنين، بهدف إتاحة المزيد من الوقت لمواصلة المفاوضات غير المباشرة الجارية، والتوصل إلى اتفاق سلام شامل ودائم، وإتاحة الفرصة لمواصلة التفاوض حول القضايا المطروحة التي تهم الشعب الفلسطيني، وبما يحقن دماء أبنائه ويحقق تطلعاته المشروعة، أمام الصمت العربي والإسلامي والإقليمي والدولي إزاء المجازر الصهيونية البشعة، وحرب الإبادة المبرمجة التي يرتكبها العدو الصهيوني المجرم ضد المدنيين الفلسطينيين الأبرياء العزل، في فلسطينالمحتلة عموما، وفي قطاع غزة المحاصر على وجه الخصوص.