مناط العقل الغربي ثقافة الذنب، فالعقل الغربي يستشعر الذنب، فإن وقع فيه يتحمل مسؤوليته مجسدا ذلك مسؤوليه بمختلف رتبهم في تحملهم مسؤولياتهم كاملة، فيقدمون على الاعتذار والاستقالة لأسباب تبدوا لنا نحن تافهة وصغيرة، أو على الأقل لا تستحق التخلي على المنصب، وذلك لانعدام ثقافة الذنب عندنا. وإن كانت ثقافة الذنب محصورة في المحيط الغربي لا تتجاوزه ولا تتعداه، وكأن الإنسانية في منطقته فقط، فلا يشعر الغرب بالذنب في معاملة غيرهم دون القيم الإنسانية، بينما في وسطهم ينعمون ويتكرمون بها حتى على الحيوانات، فيتفرجون على ما يفعل الصهاينة بالفلسطينيين كأنهم يتفرجون على فيلم مفبرك أو مؤول، فشعوبهم لا ردة فعل لها فيما تقوم به حكوماتهم من أعمال إجرامية جماعية منظمة كالاستعمار أو الاستعباد أو الاحتلال أو العقوبات الاقتصادية للشعوب الأخرى، بينما تقوم هذه الشعوب ولا تقعد إذا واحد من خارجها قام بعمل إجرامي فردي منعزل ضدها، ولا تسمع لها خبرا إذا قام به فرد من وسطها الاجتماعي بالفعل نفسه، وربما أفظع منه. ولا إشكال في ثقافة الذنب في حد ذاتها، بل المشكل المطروح هو الازدواجية والكيل بالمكيالين، فثقافة الذنب لم تعد تركز على الفعل بغضّ النظر عمن قام به، بل أصبحت تركز على الفاعل قبل الفعل، ما يدخلها في الذاتية ويفقدها الطابع الإنساني. ولأجل تصحيح الخلل وجب جعل ثقافة الذنب تقوم على الفعل لا على الفاعل، لأن التركيز على الفاعل يجعلها ثقافة ذنب جاهلية، وقد رفضها الإسلام وحولها من ثقافة ذنب تركز على الفاعل إلى ثقافة ذنب تركز على الفعل مهما كان الفاعل دون استثناء، سواء كان شريفا أو وضيعا، حتى ولو كان الفاعل فاطمة ابنة محمد الرسول الحاكم، وقد جاء في البخاري ومسلم قوله عليه الصلاة والسلام: أما بعد، فإنما أهلك الناس قبلَكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريفُ تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيفُ أقاموا عليه الحدَّ، والذي نفسُ محمدٍ بيده، لو أن فاطمةَ بنتَ محمدٍ سرقتْ لقطعتُ يدَها”. لكن سرعان ما سيطر الفكر الأعرابي على ثقافة الذنب بعد سقوط الخلافة الراشدة، وأعاد الصبغة الجاهلية لها وجعلها تدور مع الفاعل دون الفعل، كما يفعل الغرب اليوم. وقد أنعم فقهاء البلاط عليها بفتاوى احتيالية ليبرروها للحكام المجرمين وهم ينتهكون عرض الأمة ومالها، فأصبح الحاكم ظل اللّه وخليفته والناطق باسمه والمنفذ لمشيئته، فالملك ملك اللّه لا ملك الأمة، أتاه اللّه إياه بعلم فلا يجوز نزع قميص ألبسه اللّه، ولا يجوز للأمة منازعته إياه. وخزينة المال ما عادت للمسلمين، بل عادت للأقربين الذين هم أولى بالمعروف والتبذير والإسراف، والبذخ الملكي صار نعمة رب يحدث بها وعدم نسيان الأمير وبطانته من نصيبهم في الدنيا. وليتهم اكتفوا به، بل تعدوا لنصيب المؤمنين وغير المؤمنين فصادروه، ولم يتركوا لهم غير نصيبهم في الآخرة. وقد خدّر فقهاء السوء العامة وأقنعوهم بأن لهم الدنيا ولنا الآخرة، فأصبحوا يرددون بلسان واحد: ” اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني مع المساكين”، وأن أيسر الناس حسابا هم الفقراء المعدومون، فازداد الشرفاء شرفا والضعفاء ضعفا، بفضل فكر أعرابي اصطبغ بالصبغة الدينية وجعله حكام الغلبة المبرمج الديني الزائف للوعي الجمعي.. ومناط العقل الياباني هو ثقافة الخجل، فالمجتمع الياباني مجتمع قائم على الحياء الجمعي، النابع من ”البوشيدو” والذي معناه طريق المحارب، حيث تم حصر الفضائل الأساسية التي يتوجب على المحاربين التحلي بها، في سبعة أمور وهي: الاستقامة والشجاعة والإحسان والاحترام والصدق والشرف والإخلاص. ونجد العقل الياباني قد انعكس في الثقافة اليابانية، التي تحولت إلى سلوك جمعي قوامه الحياء والاحترام والتعاون والتكافل والتواضع، لدرجة أن من الاحترام أن المتكلم لا يرفع عينه في وجهك. والعقل الياباني يتغذى في هذا من ثقافة روحية ممتدة في أعماق تاريخه الحضاري، وهو عقل يقدس إنسانية الإنسان ويجعلها محطة الانطلاق ومحطة الوصول، فالضربة النووية التي تلقاها اليابان لم ترمه في قعر التاريخ ليتخلف بعقود، ولم تجعله يصاب بشلل حركي يبقيه في مكانه يمنعه التقدم والمضي الصناعي، بل جعلته معجزة إنسانية دون خرق القوانين الكونية، فنهض ونافس وتقدّم على دول صناعية عظمى. والعقل الإسلامي الخام هو العقل الذي يجمع بين ثقافة الذنب وثقافة الحياء؛ مدار ثقافة الذنب هو استشعار مراقبة اللّه لنا فنعبد اللّه كأننا نراه، فإن لم نكن نراه فهو يرانا. والعبد الرسالي الذي يعبد اللّه وهو على يقين بأن اللّه يراه ويتابعه في خط سيره الحضاري، لا ينحرف ولن يبطئ السير، وإن حدث وقصر فهو سرعان ما يستدرك ويزيد السرعة ويقوي العزم ويحثّ الهمم لأجل تحقيق وظيفته الحضارية، وهو مع هذا مشبع بثقافة الحياء، يقبل على وظيفته الحضارية على أساس الحب لا الواجب؛ إقبال المستشعر بأنه مهما كدّ في وظيفته الحضارية فهو مقصّر. الحياء أساس علاقة أفراد المجتمع الرسالي فيما بينهم، وهو أيضا أساس علاقاتهم مع خالقهم. والعقل الإسلامي اليوم عقل أعرابي، معطلة فيه خاصية ثقافة ذنب الفعل وخاصية الحياء. عقل مصلحي، مصلحة ذاتية لا جمعية، يتحرك لجلبها أو لدرئها، حتى ولو كان ذلك على حساب الجميع، شعاره : أنا وبعدي الطوفان. وهو مع هذا عقل اهتزازي متذبذب، تائه، فاقد لذاكرته، تتراءى أمامه بعض الصور الضبابية التي لا يتبين محتواها ولا كنهها، لكنه يعلم أنها ذكريات جميلة عاشها ذات يوم، ويرفض أن يعترف بينه وبين نفسه أن هناك أيضا ذكريات سوداء صنعها باسم الإسلام، والإسلام منها بريء. لذلك فالعقل الإسلامي يحتاج إلى جلسة مكاشفة ومصارحة بينه وبين نفسه، يحتاج لغسل أكبر من نجس ورجس المذهبية المفرقة. فلم ينزل الإسلام ليفرق، ويد اللّه تجمع ولا تفرق، يحتاج لغسل أكبر من تقديس شرح النص المقدس، فالشرح البشري وليد زمن وبيئة والنص المقدس، وإن كان مضمونه للبشر وشؤونهم الحياتية، فهو غير مقيد بزمن ولا مكان معين، وبالتالي لماذا نؤبده بشرح معين؟ العقل الإسلامي اكتفى بدور المتفرج على الأحداث، ولم يتفاعل معها، ولو تفاعل معها لرأى قدراته، ونقاط قوته ونقاط ضعفه، عندها يستطيع العقل الإسلامي أن يقيم نفسه ويصحح خطواته، وهذا يحتاج إلى نقلة نوعية من مناط المشاهدة إلى مناط التطبيق، فيصبح العقل الإسلامي عقلا تطبيقيا، عقلا عمليا، لا عقلا مشاهديا. وهذه النقلة تحدث بحدوث زلزلة فكرية كبيرة يخرج العقل على إثرها أثقاله، تكون ثورة فكرية كتمهيد لثورة شعبية. والثورة الفكرية هي الآن تحدث بضربات معاول في صخر الجبل التليد؛ هذه الضربات وإن كانت متفرقة وصغيرة، وعلى استحياء، فإنها مع الزمن ومع الإصرار سيتشقق منها الجبل ويخر متصدعا. هذه الضربات تكتب بمداد المثقفين التنويريين والعلماء الربانيين مخلوط بدمائهم الطاهرة الزكية، فلن يسمح لهم عبدة زينة الحياة الدنيا أن يحاولوا تغيير ما ألفوه، لكنها سنة من سنن اللّه، تدافع بين الحضارة الرسالية والحضارة المادية، تدافع بين الغابة والمدينة، تدافع بين المدينة وضواحيها لأجل التأسيس لوعي رسالي حضاري: ”وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ” يوسف21. وأي ثورة شعبية تسبقها، سرعان ما تتبدد وتتلاشى وتتبخر، سرعان ما تنتكس، باعتبار أن حدوثها جاء كعملية تنفيس طبيعي من جراء الضغط الزائد، نستطيع تشبيهها بقطيع من الثيران كره معاملة سيده السيئة له، وبعد تململ طويل في صمت، تكلموا بينهم عن الضيم النازل عليهم، وعلت أصواتهم التي تحولت إلى أعمال شغب، وانفلتت الأمور فتم كسر باب الحظيرة، وخرجت جموع الثيران وبعد أن تعبت من الركض والجري وجدت نفسها تائهة لا تعرف أين تذهب، ونتيجة الخوف، قرر بعض الثيران الرجوع للحظيرة وتبعتهم الجموع، وهذا ما حدث في الثورات الربيع العربي وما يحدث. سنن التاريخ علمتنا أن أي ثورة شعبية جارفة، ناجحة، لا بد أن تسبقها ثورة فكرية تنويرية، تنزع الغشاوة عن العيون، تزرع الأمل في الناس، تعيد النبض للقلب الجمعي للأمة، تزرع مشاريع قادة، يقودون الثورة. وأصعب جهاد وأشرف نضال هو محاولات التأسيس لوعي ثوري فكري حتى تحدث الشرارة الفكرية، بكتابات تكون هي روح الحياة التي تنفخ في جسد أمة الساكن المستسلم للموت، كلمات تكون كالوشم على الجسد، تنقش بألم لكنها تظل خالدة إلى الأبد، وأصعب نحت كما قيل هو أن تكون أنت النحات وفي الوقت نفسه المجسم المنحوت؛ ذلك هو التغيير القادم.