قد تشاهد لأول مرة، ربما باندهاش، أشخاصا يتجولون في أروقة مطار إسطنبول أو دبي أو روما أو كوالا لمبور أو سيدني، وهم ممسكون بمقبض حامل الكاميرا الرقمية أو الهاتف الذكي. يدفعونه نحو الأمام من أجل التقاط صور لهم. إنهم يصوّرون ذاتهم في كل أوضاعها وحركاتها. ويتكرر أمامك المشهد ذاته في أي مكان آخر وفي مناسبة ما، وحتى دونها. تزول الدهشة وتسأل عن هذا السلوك. فتُخْبر بأنه ”السيلفي”أو”الشخصورة”، كما عرّبها بعض الكتّاب العرب المجتهدين، والتي أصبحت ظاهرة عامة. وتعني قيام شخص بتصوير ذاته دون مساعدة أحد، لنشر ما صوّره عبر مواقع التواصل الاجتماعي. فلعل القارئ الكريم يتذكّر ”الصورة الذاتية” التي أخذها الثلاثي رئيس الوزراء البريطاني ورئيسة الوزراء الدانمراكية والرئيس الأمريكي لذاتهم في أثناء تشييع جنازة المناضل الإفريقي نيلسون مانديلا، وأثارت حفيظة سيدة أمريكا الأولى! والصورة الذاتية للبابا فرانسوا رفقة مجموعة من الشباب الذين زاروا الفاتيكان، ناهيك عن العديد من الصور التي يلتقطها الفنانون والرياضيون ومشاهير السياسة لذاتهم أو رفقة المعجبين بهم أو أتباعهم. البعض يعتقد أن هذه الممارسة تعبّر عن نرجسية مفرطة كان المرحوم شريف مساعدية، رئيس الجهاز التنفيذي لجبهة التحرير الوطني، قد نهانا عنها في وعظه السياسي عن نكران الذات! بعيدا عن المزاح، تتضارب الآراء حول تفسير التهافت على ”أخذ الصور الذاتية” ونشرها في مختلف مواقع الشبكات الاجتماعية. فيعتقد البعض أنه يجسّد الإنسان الأخير الذي تحدّث عنه الفيلسوف الألماني نتشه، أي المخلوق غير المبالي، ودون شغف والتزام والمتعب من الحياة، ولا يبحث سوى عن الراحة والأمان والاحتفاء بذاته. الشخص الذي طحنته الحياة وشكّكته في كل شيء، ولم تبق له سوى ولعه بذاته. والبعض الآخر يرى أن هذا التهافت هو سمة العصر الذي غمره التسويق. فكل شيء غدا قابلا للتسويق وكأنه ماركة تجارية السلع والخدمات والمبتكرات والأشخاص وحتى العواطف الإنسانية. ألم نلاحظ كيف أن الفنانين والممثلين أصبحوا يُسَوِّقُون أنفسهم عبر الركح التلفزيوني وأغلفة المجلات إلى درجة أن وكالة نكست Next المختصة في توظيف عارضات الأزياء أصبحت تطلب من المشاركات في مسابقاتها إرسال أفضل صورهن التي التقطناها ذاتيا! شُرع في استخدام ”التصوير الذاتي” في 2004، فاقتحم مواقع الشبكات الاجتماعية تدريجيا، بدءا بموقع فليكر وماي سبيس، ثم موقع الفايسبوك وتمبلر وانسترغرام. وتزايد الإقبال عليه بشكل لافت للنظر في 2010. وهو التاريخ الذي انتشر فيه الهاتف الذكي ”أيفون 4” بكاميراته الصغيرة الأمامية التي تلتقط الصور بشكل أجود وأنقى وأسهل. وساهم في ترسيخ الفكرة التي تنص على أن مكانة الإنسان المعاصر كفّت عن تحديد وجوده، بل إن مظهره هو الذي يفعل ذلك. لذا يسعى الجميع إلى تجميل صورهم في عيون الغير في مجتمع بدأت أوصاله تتفكك ليعاد تشكيلها وفق أنموذج من القبائل- جمع قبيلة- الجديدة التي تجسدها مواقع الشبكات الاجتماعية. فالتصوير الذاتي أو” الشخصورة” حجة إضافية في عالم وصفه الباحث ”غي دوبور” بعالم الفرجة، أي العالم الذي تغيرّت فيه كل الحياة الإنسانية لتصبح مظهرا. الكثيرون لا يشاطرون هذا الرأي ويزعمون أن الرابطة الأمريكية للطب النفسي اعتبرت ”التصوير الذاتي” حالة من الاضطراب النفسي الناجم عن الرغبة القهرية في تصوير الذات ونشرها في مواقع التواصل الاجتماعي وشكلا من الخواء أو التعويض عن نقص أو عدم الثقة في النفس أو فقدان العلاقات الحميمية. وتختلف طائفة ثالثة مع التفسيرين السابقين، وترى أن التصوير الذاتي هو ضرب من الاحتفاء باللحظة وتخليدها وتكريم الآنية التي جسدتها التكنولوجية، وتمجيد لمبدإ التقاسم الذي وفّرته تكنولوجية الاتصال الحديثة. ولئن كان ”التصوير الذاتي” امتدادا للأنا عبر المكان والزمان، فإنه يشكّل في نظر عالم الاجتماع، ميشال مفيسولي، رافعة منهجية لفهم العالم المعاصر. بل يمكن القول لفهم المجتمعات ككل. هذا ما يؤكده مركز الدراسات العليا بجامعة نيويورك الذي قام بدراسة للكشف عن التعبير العاطفي للصور من خلال درجة انحناءة الرأس وموقع الأنف، وتعابير الوجه في الصورة الملتقطة ذاتيا. لقد قام بتحليل 640 صورة منشورة في موقع شبكة أيستنرغام من المدن التالية: برلين، نيويورك، موسكو، ساوبولو وبنكوك. واستنتج أن الصور الذاتية للأشخاص من موسكو تبدو أكبر سنا من صور بقية البلدان، وتتضمن الصور الأشخاص الذاتية القادمة من ساوبولو ابتسامات وقحة. وتنحني رؤوس نساء نيويورك في صورهن الذاتية انحناءة خفيفة نحو الكتف من باب التغنج. والنساء أكثر ميلا لتصوير ذاتهن من الرجال في موسكو. فماذا عن الصور التي يلتقطها أبناء جلدتنا لذاتهم؟