في صباح ماطر مشؤوم منذ قرابة الشهرين، يعيش حي تيليملي بالعاصمة هدوءه المعتاد.. يخيم شبح الموت على العمارة المقابلة للأمن الحضري التاسع وبالضبط في الطابق الثامن، حيث تتواجد أم رفقة أبنائها الثلاثة، تنتظر والد زوجها المتواجد في البقاع المقدسة ليصطحب حفيده إلى المدرسة، تاركا زوجة ابنه رفقة ابنتيها فريسة دسمة للجانية، بعدما رتبت لهن موعدا مع الموت بشكل فظيع، عصي على الإدراك، بل يعجز حتى المخيال على تخيله. بدأ العد التنازلي لحياة العائلة الصغيرة، قبل أن يعود الجد رفقة حفيده في حدود الساعة الحادية عشر، ليجد باب الشقة مفتوحا جزئيا.. لم يخطر بباله أن مكروها قد حصل لأفراد العائلة، وبمجرد أن فتح الباب على آخره، رأى مشهدا صادما.. ولا في أسوأ كوابيسه دموية رآه.. زوجة ابنه وابنتها مذبوحتان وتسبحان في بركة من الدم، فيما البنت الصغرى ذات الحولين والنصف تصارع الموت متأثرة بجروح خطيرة.. انفجر الطفل بالبكاء والصراخ واضطرب الجد وأصابه الشلل أمام هول المنظر، ولم يستطع فعل شيء، لتتدخل الجارة وتقوم بستر الجثث، وإطلاق صيحات النجدة في محاولة لإنقاذ الطفلة. اهتز الحي على وقع الخبر، ليتوافد السكان على مسرح الوقائع، وعلامات الذهول والاستفهام بادية على وجوهم، وكلهم شغف في معرفة ملابسات وأسباب الجريمة وبالخصوص الوحش أو الوحوش الذين نفذوها، سيما وأن حيهم لم يشهد مثلها من قبل.. وصل عناصر الشرطة القضائية لمقاطعة سيدي أمحمد وطوّقوا مسرح الوقائع، ليليهم وصول مسؤولي البلدية ووكيل الجمهورية المختص إقليميا للوقوف على التحقيق العلمي والأمني لتفكيك خيوط الجريمة، والذي أفرز بعد 48 ساعة تحديد هوية الجاني، وهي امرأة في الثلاثينيات من عمرها، يدور حديث بأن لها علاقة رسمية أو غير ذلك مع رب البيت، انقادت بدافع الغيرة والضغينة، وتخلت عن آدميتها ونزعت من عليها جلد الإنسان لتلبس آخر لوحش بري خال قلبه من الرحمة، لتترجم كل أحاسيس الحقد في شكل جريمة ستظل راسخة في أذهان الناس. ورغم أن الجريمة نكراء، إلا أن المحققين لم يسجلوا أي آثار لكسور على الأبواب أو سرقة لممتلكات العائلة، ما عزّز لديهم فرضية أن الجاني قريب من العائلة ويتابع أخبارهم عن كثب، ويكون (الجاني) انتظر ذهاب رب البيت إلى البقاع المقدسة ليتنقل إلى بيته ويقتحمه بالثقة ويباغت أفراد العائلة على حين غفلة، ويرتكب في حقهم مجزرة، ويترك الطفل وأخته الصغرى يعيشان ما تبقى من عمرهما أيتاما وتطاردهما صورة مأساوية، رسمتها الجانية بريشة مغمّسة في دم والدتهما وأختهما. من الحج إلى مشهد “الجحيم” وتزامن تواجد الشرطة في منزل الضحايا مع وصول رب العائلة من البقاع المقدسة، وهو في حالة صدمة وغير قادر على الكلام، حيث ساد جو من الحزن والهلع كل أرجاء الحي، الذي ظل سكانه متسمّرين تحت الأمطار أمام مدخل العمارة طيلة النهار، لمعرفة خلفيات الحادث، إن بدافع الفضول أو لمواساة أقارب الضحايا. حينها تقربت “الخبر” من الجد ليروي لها بعض تفاصيل اللحظات الأولى من الحادث قائلا “ارتمت في أحضاني الطفلة، وهي في حالة هستيرية، بعدها سارعت إلى إرسال الطفل إلى المستشفى للتخفيف من وقع الصدمة على نفسيته، خاصة وأنه كان في حالة حرجة تستلزم مرافقة وعناية طبية خاصتين..”. الكلمة الأخيرة.. للقضاء تم تقديم الجانية أمام وكيل الجمهورية لدى محكمة سيدي أمحمد، الذي أحالها على قاضي التحقيق لكشف الملابسات الخفية التي كانت وراء الجريمة، التي أفرزت- حسب مصادر قضائية- أن المتهمة توجهت من حي ڤاريدي بالعاصمة إلى مسكن الضحية برفقة شخص حامل للحقائب، كما لو أن زوجها قد عاد من الحج.. طرق الرجل الباب، وأخبر الضحية بأنه يحمل حقائب زوجها المنتظرة عودته من البقاع المقدّسة في ذلك اليوم. سقطت الضحية في الفخ وتحت تأثير الفرح بعودة زوجها من الحج، فتحت الباب فاسحة المجال للجانية لاقتحام البيت واقتراف جريمتها الشنعاء في صمت، من دون أن يتفطن لها الجيران، وهو ما يثير التساؤل حول الطريقة التي اهتدت إليها الجانية لإسكات صراخ الضحايا. وأثناء خضوع الجانية لاستجوابات مطوّلة من قبل قاضي التحقيق اعترفت بكل برودة بأن ما أقدمت عليه هو للانتقام من زوجها بعد رفضه تطليق زوجته الأولى وأم أطفاله، ما دفع القائم على التحقيق لعرضها على أخصائيين بمصلحة الأمراض العقلية بمستشفى باشا، الذين أثبتوا صحتها العقلية. آلام أبدية جاء بها الغرام وسرّب مقرب من العائلة، ومتابع للحادثة منذ وقوعها، أن تفكير الجانية كان مركزا على قبول الضحية بها كزوجة ثانية، والإمضاء على ذلك لدى رئيس المحكمة حتى يتسنى لها الزواج وترسيم العلاقة معها إداريا كما وعدها به زوج الضحية، وهو الأمر الذي رفضته الأخيرة مطلقا، ما نمّى في نفس المتهمة حقدا دفينا قبل أن تقرر إزاحتها من طريقها من خلال تربية ثقتها، وترتيب موعد لزيارتها، بالتزامن مع اليوم الذي سيعود فيه الزوج من الحج، لتنهي حياة عائلته. أين الطفل الناجي الآن؟ لا يزال البيت المشؤوم الشاهد على جريمة القتل، والذي سيشكل في حياة الطفل محطة مظلمة بحياته، مشمعا من قِبل السلطات الأمنية والقضائية، بينما انتقل الطفل الناجي الوحيد من المجزرة للعيش في حضن الجد، غير بعيد عن البيت الأول، بعدما غيّر المدرسة التي كان يدرس بها أثناء وقوع الحادثة. وبالرغم من بشاعة الجريمة وتداعياتها على نفسية الطفل أولا والأب ثانيا، وكذا ما ستسلطه محكمة الجنايات من عقوبات سالبة للحرية أو إعدام، فإن الجرح لا يندمل إلا بفعل نعمتي النسيان والزمن، اللتان ستمنحان الطفل قوة لمواصلة درب حياته. أستاذ علم الاجتماع الجنائي محمد حشروف “العاطفة وقانون منع تعدد الزوجات وراء المذبحة” يعتبر الباحث في علم الاجتماع الجنائي وعلم العقاب وأستاذ سوسيولوجيا العنف، حشروف محمد، في قراءته لشخصية الجانية، أنها قامت بفعلتها بسبب إحساسها بالخداع والإفلاس والقهر النفسي “فالجريمة نتيجة لمشاعرها المكبوتة”. ويرى الأستاذ حشروف أن صفات “المجرم بالعاطفة” تنطبق على منفذة هذه المجزرة، وهو ما جاء في تعريف عالم الإجرام الإيطالي سيزار لمبروزو لهذه الشخصية بهذا السلوك، حيث أفاد بأن “المجرم بالعاطفة هو الشخص الذي يقوم بجرائمه نتيجة لكبت مشاعره وتراكماته النفسية والإحساس بالقهر، ونتيجة إفلاسه وتلاعبات حدثت له، كل هذا ولّد الانفجار للكبت النفسي”. وأضاف المتحدث موضحا “يمكن أن للجانية علاقة وطيدة بتلك العائلة من خلال أحد أفرادها، وهذه العلاقة عرفت انهيارا أو انعطافا مفاجئا زرع لديها نوعا من اللاوعي واللاإحساس قاداها إلى تنفيذ المذبحة”. وعلى صعيد قانوني، أرجع المتحدث سبب الجريمة الثاني إلى القانون المانع لتعدد الزوجات إلا بموافقة الزوجة الأولى، حيث عطل من جهة حق الزوج في تعدد الزوجات مشترطا موافقة الأولى آخذا بالاعتبار كرامتها وإحساسها، لكنه أفرز في المقابل ظاهرة تعدد الزوجات في السر والزنا الدائم. وأوضح المختص في السياق أنه “يوم الوقائع المتزامن مع رجوع رب البيت من الحج ممكن أن الجانية حاولت تنفيذ جريمتها والبعث برسالة إلى من انتقمت منه، تعبر فيها عن ردة فعل معينة قد تكون وعودا أو حادثة لا تزال حبيسة بين دفتي ملف المحققين، حيث أحست بالخسران واختلطت عليها المشاعر بين الشعور بالخداع والإفلاس وبين الانتقام أو التريث، فقامت بجريمتها بدافع العاطفة، بعدما تحوّل الإحساس بالخداع إلى سلوك انتقامي”. وتابع المتحدث “إن الكثير ممن اعتبروا القانون كابحا لرغبتهم في التعدد أصبحوا يتزوجون شرعا دون استكمال الإجراءات الإدارية، إلى حين إنجاب الأبناء ومن ثم الجهر بالعملية لتصبح حتمية ومفروضة على الكل”.