لنبدأ بروسم الرواسم: “الجزائر بلاد غنية”. غلط. على صعيد الغناء المادي، تحتل الجزائر المرتبة ال90 بين 182 بلد، بناتج داخلي خام للساكن (ن.د.خ/س) يقدر، حسب صندوق النقد الدولي، ب5.297 دولار في 2011، و5.606 في 2013. في هذا العام الأخير، كان (ن.د.خ/س) في لبنان وتركيا يزيد عليه بحوالي ضعفين (10.477 و10.721 دولار على التوالي)، وفي اليونان بأكثر من 4 أضعاف (21.857 دولار)، وكذلك في قبرص (24.867 دولار)، وفي إسبانيا بأكثر من 5 أضعاف (29.150 دولار)، وفي الشيلي بأكثر من ضعفين (15.776 دولار). ما هو البلد الغني؟ هل هو العضو في المجموعة المسماة البلدان ال20 الأكثر غنى، بدءا، حسب صندوق النقد الدولي، بقطر (ن.د.خ/س) بلغ 189.950 دولار في 2013، وانتهاء بفرنسا حيث بلغ 42.991 دولار؟ إن مستعملي تلك العبارة لا يكلفون أنفسهم عناء تحديد معناها، ويضيفون، أحيانا، إلى الجازمة “الجزائر بلد غني” جازمة أخرى “بشعب فقير” دون تعريفها هي الأخرى. وهكذا يترك الاقتصاد مكانه للسياسة، بل وللشعار، مع أن الحقائق تفيد العكس: متوسط المستوى المعيشي للجزائريين ارتفع. هذا واضح وجلي، لاسيما بين الطبقات الوسطى التي تغير نمط استهلاكها (سيارة، ترفيه، سياحة..)، وهو أمر جدير بالدراسة لمعرفة كيف وقعت هذه الزيادة، وما هي طبيعة التمايزات الاجتماعية التي حدثت جراءها. «الأدب الريعوي” روسم آخر: “الدولة الريعية”. إن عددا لا يحصى من النصوص، المقالات، الخطب، تستعمل، في الجزائر، هذه الفكرة بصيغ مختلفة- “الريع النفطي”، “مداخيل الريع”، “التصرفات الريعية”..- دون التساؤل عن صلاحيتها، هي أيضا، حتى باتت وكأنها فكرة متفق عليها وواحدة من المسلمات وذلك في جو تسوده استقالة نقدية مثيرة للاستغراب. ما هي “الدولة الريعية”؟ هل هي الدولة التي تفرض رسما نفطيا، بمعنى تجبي ضرائب نفطية؟ في هذه الحالة، كل دولة تكون “ريعية” ما دامت تجبي الضرائب. يلاحظ بالمناسبة أن هذه العبارة لا تستعمل بشأن الشركات النفطية الغربية الكبرى. ومع ذلك لننظر في سلامة ربط كلمة “الريع” بالدولة. من وجهة نظر النظرية الاقتصادية يرتبط الريع بتعريفات وأوضاع متعددة، لكنها متصلة دائما بربح معين وبالدخل المتولد عنه: ربح إضافي متحصل عليه بعيدا عن المنافسة وفي وجود احتكار أو تفوق تكنولوجي، مثلا، ريع عقاري، ريع مالي عن طريق الاقتراض. بالنسبة لعلم الاقتصاد، الريع هو أجر رأس المال بأشكال متعددة، ولا يدخل أي مدلول أخلاقي أو أخلاقوي في الموضوع. غير أن تلك الكلمة تتعرض للتحريف ولاختزال معانيها في معنى واحد، ذلك الذي يقال عن شخص يعيش دون القيام بأي شيء (الشخص الكسول)، فيطلق على دولة بأكملها، ثم على بلاد برمّتها، ثم على مجتمع بأسره. يتم الحديث عن الدولة كما لو كانت فردا، ومن خلال تحليل بسيط يتكون لدى الناس شعور بإدراك عمق الوضع الجزائري وسر كافة مشاكلنا: “نحن لا نعمل، نحن نعيش على البترول”. هذه النظرية حول الريع، التي يجري تناوبها، في الجزائر، وتكرارها بلا هوادة بواسطة التحاليل والتصريحات، تخلص إلى رسم لوحة عن بلاد تعيش وتبقى على قيد الحياة بفضل موارد المحروقات وحدها. فتقترن هكذا بممارسة سوء إعلامي عبر التلاعب بالالتباس حول حصة قيمة المحروقات في صادرات الجزائر (98%) وحصتها في الإنتاج الوطني، وهما شيئان مختلفان تماما بطبيعة الحال. إن عائدات المحروقات لا تمثل سوى 30% تقريبا من الناتج الداخلي الخام للجزائر وبالتالي فإن 70 %من هذا الناتج ومداخيل الدولة تأتي من عمل الجزائريين، وذلك إذا افترضنا جدلا أن عائدات المحروقات شيء آخر. وهو ليس كذلك بطبيعة الحال، لأن عشرات الآلاف من الجزائريين يشتغلون في هذا القطاع، في ظروف شاقة أحيانا، وينتجون هذه الثروة. وفضلا عن الحجم المعتبر للاستثمارات الذي يستلزمه هذا القطاع فقد آل إلى الإطارات الجزائرية، بفضل كفاءتهم وخبرتهم المكتسبة بعد تأميم المحروقات، القيام بدور أساسي في تنميته، سواء في الجزائر أو في بلدان عربية أخرى، بما فيها بلدان الخليج. إن إنتاج النفط لا يعادل الريع. والحال أن نظرية الدولة الريعية ولدت وتطورت خلال السبعينيات، وبالضبط أثناء صعود البلدان النفطية وموجة تأميم النفط في العالم العربي، ضمن ما يعرف ب«دراسات الشرق الأوسط”. وقد كرست أولى هذه الدراسات لإيران في عام 1970 (حسين مهداوي، نمط ومشاكل التنمية الاقتصادية في الدول الريعية: حالة إيران [بالإنجليزية])(2). هذه النظرة تستند أساسا إلى طرح يقول بأن طبيعة الثروات النفطية ورقابة الدولة عليها من هنا عبارة الدولة الريعية، تفسر أن “طابعهما الخارجي عن المجتمع”، وبالتالي تعسف دول الشرق الأوسط النفطية. وتولد عن هذا الطرح أدب قوامه خليط من الاعتبارات الانتقائية، الاقتصادية والسياسية، بل وحتى النفسية والأخلاقية عن تلك الدول، مع تغليب الوصف والحكي عليه. يجب قراءة مقال فتيحة تلاحيت المفيد حول هذا الموضوع “مفهوم الريع، وجاهة وانزلاقات”(2)، الصادر بالفرنسية في 21 جوان 2006. لقد لاحظت هذه الباحثة أن “تلك الأدبيات، المسماة أحيانا ب«مدرسة الدولة الريعية” وأحيانا أخرى ب«الريعوية” تقوم على نقل لفظ اقتصادي، الريع، إلى علم السياسة”، فتساءلت عن صلاحية هذا الإجراء، لاسيما وأن علم الاقتصاد لم ينجح في “بناء نظرية موحدة حول الريع”. وبما أن “الإحالة إلى الريع تفتقر إلى أسس نظرية متينة في الأعمال حول اقتصادات ودول منطقة الشرق الأوسط”، ينبغي أن “لا نستغرب انزلاق [تلك النظرية] أحيانا وتحولها إلى مجرد حكم قيمي عن مشروعية بعض الريوع وعدم مشروعية البعض الآخر، دون إثبات العلاقة بين المشروعية والنجاعة الاقتصادية إثباتا واضحا”. وبالرغم من ذلك، تضيف تلاحيت، لاقت تلك النظرية “نجاحا غير منتظر”، وبخاصة “افتتن بها جيل من الجامعيين والإطارات من بلدان الاقتصاد الموجه إداريا” ممن كانوا يبحثون عن شبكة تحليل تسمح لهم بنقد التسيير على أيدي السلطات القائمة. فتساءلت حول ما إذا لم تكن الإحالة إلى هذا التفسير– “الريعوية”– مرة بعد أخرى قد أصبحت “تنم عن نوع من الكسل الفكري أو عدم القدرة على صنع أدوات مفهومية تلائم دراسة هذه الاقتصادات بشكل أفضل”. وأشارت في هذا الإطار إلى نزوع أنصار هذا التفسير حاليا إلى “تثمين الإنتاج الصناعي أو الزراعي على حساب النشاطات التجارية والمالية المنظور إليها كنشاطات طفيلية ومضاربية”، ما يؤدي إلى “تأخر فادح في تحديث التوزيع والنظام المالي، مع أنهما قطاعان أساسيان للحيوية الاقتصادية في البلاد أيا كانت”. بين إعادة النظر في مشروعية الدولة، الموصوفة هكذا ب«الريعية”، وبين إعادة النظر في مشروعية ملكيتها وملكية البلاد لثرواتها، لا توجد سوى خطوة واحدة. وقد يكون مغريا للبلدان المصنعة الكبرى أن تجد في هذه النظرية حول الريع حجة للمطالبة بمشروعية تملكها أو سيطرتها على المحروقات ما دامت هي المستعملة الرئيسية لها. وهي خطوة تم قطعها بالفعل في بعض الحالات، وتفسر بعمق التدخلات العسكرية في العراق وليبيا مثلا. وهكذا ندرك بوضوح أكبر “التزامن” الذي أشرنا إليه أعلاه بين تأميم المحروقات وولادة نظرية “الدولة الريعية”. “الاستبداد الشرقي” و”العربي الكسول” وتساءلت فتيحة تلاحيت حول ما إذا لم تكن تلك “النظرية”، في نهاية المطاف، بعثا لنظرية “الاستبداد الشرقي” القديمة وكذلك حول ما إذا لم يكن “يقف خلفها روسم العربي الكسول والمسؤول عن تخلفه”. إنها ملاحظة في محلها دون شك، ذلك أن الخطاب “الريعوي” يؤدي حتما إلى تذنيب “شعب لا يعمل” أو “يجب إجباره على العمل”. فعلى النقيض من النوايا الصادقة أحيانا، المعلن عنها في البداية، يتدرج هذا الخطاب إلى تغذية احتقار شعب، بوصفه “مصرانا.. يستهلك ولا ينتج أي شيء”، وينتهي به المطاف، تلميحا أو تصريحا، عند الكشف عن إعجاب مكبوت بنظام استعماري كان فيه “الناس يعملون والزراعة ماشية” و«التنظيم موجود”. فيتسرب بين السطور خطاب “الاستقلال ما فيه حتى شيء مليح”، بما فيه من جمل كالتي وردت في واحدة من بين صحف مماثلة كثيرة: “الجزائريون ليسوا مواطنين منذ 1962”. ما الذي كان موجودا قبل 1962؟ الاستعمار.. هكذا نتبين الاستعمال الذي قد ينجر عن الخطاب “الريعوي” على الصعيد السياسي والإيديولوجي: إقناع أمة بأكملها أن الدولة الوطنية غير مشروعة وتبخيس الأمة لذاتها عبر خلق الشعور لديها بأنها تعيش عالة على الدولة أو على موارد البترول والغاز، وهو الشيء نفسه بالنسبة لهذه النظرية حول الدولة الريعية. فبحسب الحالات، يمكن استعمال هذه الفكرة أو تلك، سواء لنزع المشروعية عن الدولة أو لرفض أي مطالبة يتقدم بها الشعب باللجوء إلى تذنيبه “ما دام لا يعمل” وما دام “لا ينتج شيئا”. وهناك رواسم أخرى تعد من مشتقات الخطاب “الريعوي” مثل “الجزائر تستورد كل شيء”، أو “الزراعة في حالة تميع”. وهو كلام غير صحيح لأن الزراعة والصناعة الغذائية الجزائريتين تغطيان من 50 إلى 60% من الاحتياجات الغذائية للبلاد، ولأن مساحات جديدة ومعتبرة تم تفليحها. وبعيدا عن الإحصائيات (التي يحكم عليها الخطاب “الريعوي” مسبقا بأنها مضللة)، يكفي المرء أن يتجوّل عبر الجزائر لكي يلاحظ، مثلا، أن سفوح الجبال أصبحت خضراء ومزروعة، وأن السقي امتد إلى أراض جديدة. صحيح أن تبعية الجزائر في مجال استيراد مدخلات إنتاجها تبعية بليغة، لكن الخطاب “الريعوي” لا يميز بين الوقائع ويعمل بالجوازم: “الجزائر لا تنتج شيئا”. وما روسم “الدولة تشتري السلم الاجتماعي” سوى تنويعة أخرى من الأدبيات “الريعوية”، تفيد بأن “الريع يسمح للدولة شراء صمت السكان” و«تأجيل المواعيد”. هذا الجزم، الذي يراد منه القول الحسم وإغلاق باب النقاش، لا يحمل، في الحقيقة، أي معنى اقتصاديا. من قال إن السلم الاجتماعي شيء سيء؟ هذا مع العلم أنه يعد، منذ ريكاردو وسميث، عامل استقرار وأمن، وبالتالي عامل تنمية اقتصادية. والغريب في الأمر أن ذلك الجزم يقرن أحيانا بخطاب يدعو إلى الحداثة وإلى العدالة الاجتماعية: كيف يمكن الدعوة إليهما وفي الوقت نفسه التنديد بالإجراءات المتعلقة بزيادة الأجور والتحويلات الاجتماعية وتحسين توزيع الدخل الوطني؟ وعندما يبلغ الخطاب الريعوي، المحبوس في منطقه الخاص، أقصى مداه، ينتهي به الأمر إلى ممارسة سياسة الأسوأ: يبتهج بصعوبات البلاد، يستقبل نبأ انخفاض أسعار النفط استقبال الخبر السار، يغذّى بحجج واهية علميا إيديولوجية مكونة من شعور بالكارثية والقلق وهبوط المعنويات، أي يجري تخويف الناس وبث توقعات تندر بمستقبل مظلم لهم، مستقبل نهاية الموارد النفطية. ويبلغ تحطيم المعنويات الذروة في قول أو كتابة بعضهم بأن “البترول لعنة على الجزائر”. هل يمكن تصور حديث عبثي أكثر من هذا لقد استرجعت الجزائر ثرواتها من المحروقات بكفاحها ضد الاستعمار. يجب ألا ننسى بأن حرب التحرير كانت أطول في الصحراء وأن النفط هو أيضا دم شهدائنا. لكن الخطاب الريعوي يقلل من أهمية موارد الطاقة في العلاقات الدولية، بصفتها موارد نادرة وإستراتيجية، وبالتالي يقلل من دورها في قدرة الجزائر على تبني سياسة مستقلة، ولا ينظر إلا للوجه الآخر، الحقيقي بلا جدال، المتمثل في التبعية إزاء صادرة وحيدة. هذا في حين يجب النظر أيضا إلى الدور الذي أدّته موارد المحروقات في المجهود الضخم من أجل بناء البلاد منذ الاستقلال، من أجل تنميتها الاقتصادية، وتجهيزها بالهياكل التحتية الحديثة، ومن أجل تكوين الموارد البشرية، الطاقة المتجددة الحقيقية. 1 - Hossein MAHDAVY, « The Pattern and Problems of Economic Development in Rentier States : The Case of Iran », in Studies in the Economic History of Middle East, Ed. 2- Fatiha TALAHITE, « Le concept de rente, pertinence et dérives », in Problèmes économiques, n° 2908, 21 juin 2006.