إنّ من أهمّ ما يُحبط العمل ويُوجب العقاب، ما جاء في سورة البقرة: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ}، فالردّة والرجوع إلى الكفر بعد الإيمان موجب للعذاب ودخول النّار، ولا ينفع مع الردّة عمل. قال ابن عاشور: وحَبَطُ الأعمال: زوال آثارها المجعولة مُرتبةً عليها شرعًا، فيشمل آثارَها في الدّنيا والثّواب في الآخرة، وهو سرّ قوله: {فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ}. فالآثار الّتي في الدّنيا هي ما يترتّب على الإسلام من خصائص المسلمين، وأوّلها آثار كلمة الشّهادة من حُرمة الأنفس، والأموال، والأعراض، والصّلاة عليه بعد الموت، والدّفن في مقابر المسلمين، وآثار العبادات وفضائل المسلمين بالهجرة والأخُوَّة.. وآثار الحقوق مثل حقّ المسلمين في بيت المال والعطاء، وحقوق التّوارث والتّزويج.. وأمّا الآثار في الآخرة فهي النّجاة من النّار بسبب الإسلام وما يترتّب على الأعمال الصّالحات من الثّواب والنّعيم. والردّة ليست عبادة للوثن، أو سجودًا للصنم، ليست الردّة أن تكون على حال أهل الجاهلية، بل هي اعتقاد ما يُناقض حقائق الإسلام الثابتة، كإنكار البعث والقَدَر، أو الجنّة والنّار، وإنكار الملائكة وعلم الغيب، فبعض الردّة عمل قلبي، كما أنّ الإيمان عمل قلبي، ومن الردّة ما يكون بالأقوال، فكلّ قول يُفصح عن اعتقاد باطل يؤدّي بصاحبه إلى الردّة، شعر أو لم يَشعر، كمَن يستهزئ بالله أو برسوله، أو يسخر من القرآن أو بدين الإسلام، أو بشعيرة من شعائره، فكثير من النّاس يتلفّظون بكلمات تهدم أعمالهم، وتذهب بحجّهم وزكاتهم، قال الله تعالى عن الّذين يتلفّظون بألفاظ الكفر ويدعون أنّهم ما أرادوا غير المزاح: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ. لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}، فقد ظهر في هذا الزّمان مَن يتزلّف ويتقرّب إلى الكفّار من اليهود والنّصارى بإظهار سخريته من الدّين، وبعضهم يتهجّم على ما يُعظّمه المسلمون، وما أمر الله بتعظيمه، أو ينتهك حُرمة رسول الله، أو يردّ على القرآن، أو يُساوي بين الإسلام والنصرانية ليُقرّر أنّ دين الإسلام في المسجد مثل دين النّصارى في الكنيسة، ولا علاقة له بالحياة، أو يرد سبب تخلّف المسلمين إلى الدِّين، وأنّ الدّين الإسلامي يُعرقل الحياة وما إلى ذلك، والحجّة عند بعضهم أنّ كُلَّ شيءٍ قابلٌ للنّقد، وأن لا شيء يمنع من الحرية. فليحذر المسلم هذه الأبواب الّتي يفتحها الّذين يلهثون وراء رضا اليهود والنّصارى الّذين يُسخّرون الأموال والمناصب والجوائز الثقافية والأَوْسمة الدولية لأجل أن يرتد بعض المسلمين عن دينهم، ثمّ تُستغلّ قضاياهم سياسيًا وقضائيًا ضدّ أوطان المسلمين. وكما تكون الردّة بالاعتقاد وبالأقوال، تكون أيضًا بالأفعال، ومن صورها ما جاء عند فقهاء الشافعية: والفِعل المُكَفِّر ما تَعمَّدهُ صاحبُه اسْتِهْزَاءً صريحًا بالدّينِ، أو جحودًا له، كإلقَاء مصحف بقاذورة، لأَنّه صريح في الاستخفاف بكلام الله تعالى، والاستخفافُ بالكلام استخفافٌ بالمتكلِّم، وسجودٍ لصنم، أو سجود لشمسٍ أو غيرها من المخلوقات، وكذا السّحر الّذي فيه عبادة كوكب لأنّه أثْبتَ لله شريكًا. وإنّ شأن الردّة خطير، حذّر الله عباده منها، وإنّ الوعيد الّذي جاء معها لعظيم، وقد ورد هذا الوعيد في حقّ مَن يُفتن في دينه، ويُقاتَل عليه، ويُكره على الكُفر بعد الإيمان فيُجيبهم إليه، قال تعالى: {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، إذا كان مصير مَن يرتد عن الإسلام تحت مطارق الأذى والفتنة مهما عظُمت حُبوطَ عمله ثُمّ النّار، فكيف بمَن ذاق حلاوة الإسلام وعرفه؛ ثمّ ينقلب على عقبيه وهو آمن غير مُكرَه؟ كيف هو حال مَن يخطو إلى الردّة بقدميه، ويكتبها بيديه، وينطقها بلسانه وشفتيه، طوعًا لا كرهًا، كحال كثير ممَن يرتدُّ في هذا الزّمان، حيث لا إكراه ولا فتنة، بل طمع في دنيا، وحُبّ في موافقة الكفار.