المتجول بين أروقة التاريخ الجزائري القديم والحديث يجد أن سطيف لم تكن مجرد حيز جغرافي داخل المنظومة الاستعمارية القديمة منذ الرومان وإلى غاية الفترة الاستعمارية، بل هي كيان معرفي وثقافي يتفاعل مع معطيات كل عصر منذ عهود غابرة، تسارعت خطوات الزمن لتترك آثارها بين قسمات وجه الحارات القديمة التي تعاقبت عليها الظروف المناخية لتسلبها بعضا من جمالها ورونقها وتترك بصمات الزمن شاهداً على ملامحها لتحتفظ بوجهها الأثري العريق. تكتنز مدينة سطيف العديد من "الحارات" القديمة الأثرية والتاريخية التي تعد مفتاحا أثريا يكشف العديد من السياقات الاجتماعية التي كانت تعطر الحياة السطايفية في الماضي. تحتضن الحارات القديمة عددا من القلاع والحصون والبيوت والمساجد التي ظلت شاهداً على براعة الإنسان السطايفي في البناء المعماري. حارات قديمة لملمت بين جنباتها عددا من المعالم، مثل الأسواق القديمة المترفة بروح الماضي، لتغدو ذاكرة حية وشاهداً على حقب ماضية.. وعلى الرغم من الأهمية الكُبرى التي تمثلها تلك الحارات القديمة، كونها أحد وجوه السياقات الاجتماعية القديمة بسطيف، مع بعض الجهود المحتشمة لحفظها وإبقائها حية، لكنها لم تحظ بالاهتمام الإعلامي الكافي الذي يعطيها حقها في حجز مكانة ضمن التاريخ السطايفي المعطر بالبطولات والإنجازات.
مدينة سطيف تسيل لعاب الرومان والبيزنطيين والعثمانيين والفرنسيين
إن الهدف من إعادة طرق أبواب تاريخ مدينة سطيف يتمثل في معرفة أهم المحطات التاريخية التي أسست لاستمرار المدينة ووجودها، فسطيف، سيتفيس أو أزديف، التي تعني التربة السوداء أو الخصبة، تعد واحدة من أقدم المدن الجزائرية التي ظهرت في منطقة لم تعرف الاستقرار على الإطلاق، نظرا لموقعها الجغرافي الذي يسيطر على السهول العليا الشاسعة والغنية بالقمح وموقعها الاستراتيجي عند سفح جبل بابور، وقد شهدت تعاقب العديد من الحضارات بدءا بالفينيقيين، الرومان، الوندال البيزنطيين، العرب المسلمين، الأتراك والفرنسيين، غير أن مرحلة الوجود البيزنطي تعتبر أبرز فترة أسست لوجود المدينة التي لا تزال آثارها الرومانية بادية إلى اليوم وشامخة، ممثلة في القلعة البيزنطية المترامية الأطراف في حديقة التسلية. من جهة أخرى كانت منطقة سطيف تابعة لمملكة سيساسيلية. وفي سنة 110م بعد الحروب الفينيقية، أصبحت عاصمة المملكة البربرية بقيادة ماسينيسا نظير مساندته لروما في حروبها مع قرطاجنة، ومن سنة 61 ق.م أصبحت سطيف تابع لموريتانيا القيصرية. وفي سنة 90م قرر الإمبراطور نيرفافي إنشاء مستعمرة لقدماء الجيش في سيتفيس، أطلق عليها عدة تسميات كولونيا نيرفيانا"، كولونيا أوغيسطا"، "كولونيا مارطاليس"، "كولونيا فيترنانة" و "ستيفانسيوم"، ونظرا لاستمرار الثورات وكذا تدهور الأوضاع الاقتصادية، والذي تلاه تعرض المنطقة إلى زلزال عنيف سنة 629م دمر المدينة عن آخرها. كل هذا سهّل احتلال المدينة من طرف الوندال سنة 619م، والذي دام إلى غاية سنة 900م، حين احتلها العميد البيزنطي سالمون وقام بترميمها وجعلها عاصمة لإقليم موريتانيا الأولى، ونظرا لعدم تحكم الإمبراطورية البيزنطية في زمام الحكم، وكذا تزايد الثورات وظهور أولى حملات نشر الإسلام، فقد ضعفت هذه الأخيرة وتم فتح مدينة سطيف التي صارت تابعة للدولة الأموية والعباسية طيلة 3 قرون، ونتيجة لضعفها هي الأخرى فقد انقسمت إلى عدة دويلات، منها الدولة الفاطمية التي ساهم في ظهورها قبيلة كتامة في نواحي بني عزيز، لكن وجودها لم يدم طويلا وبقيت خاضعة لدويلات إسلامية أخرى حتى مجيء العثمانيين. استطاع المستعمر الفرنسي الاستيلاء على مدينة سطيف في عام 1848م تحت قيادة العميد قابلوا، حيث أهمل الفرنسيون الآثار التاريخية للمنطقة، وأخذوا في طمس معالمها من خلال استعمال كميات كبيرة من الحجارة ذات الطابع التاريخي في بناء الثكنات العسكرية، في هدف واضح لجعلها مركزا استراتيجيا وعمرانيا للهيمنة شد أنظار المعمرين والمهاجرين القادمين من مختلف أنحاء أوروبا، مع السيطرة على باقي المناطق المجاورة لها، وقد أحاط البناؤون الفرنسيون مركز مدينة سطيف بسور كبير جُعل له 4 أبواب هي: باب الجزائر، وبسكرة، وقسنطينة، وبجاية.
الفرنسيون أبدعوا في تصميم مدينة سطيفوالجزائريون خلقوا مدنا فوضوية
مهما قلنا عن بشاعة الاستعمار الفرنسي ومحاولاته لطمس الهوية الجزائرية، مع محاولته زرع الثقافة الفرنسية، فلا نستطيع ترجمة ذلك لأن الكلمات والأحرف وحتى الصور تبقى عاجزة على طول الخط. في المقابل لا يمكن أيضا أن ننكر تلك الصورة الجمالية التي تركها الاستعمار في جل المدن الجزائرية والمناطق الحضارية الكبرى، على غرار مدينة سطيف، فتصميم الشوارع التي كان يقطنها المستعمرون وزخرفة المباني والأبواب والنوافذ، زيادة على الينابيع والساحات العامة والحدائق، خلق منها مدينة فريدة تغنى بها الجميع خلال الاستعمار وبعده. ويجزم جميع المهندسين بأن مرحلة ما بعد الاستعمار لم تتمكن حتى الآن من خلق نموذج مماثل لهذه المدينة وباقي المدن طبعا، بدليل أن مناطق التوسع العمراني باتت تُعرف بالفوضى وسوء التنظيم وبشاعة الهندسة المعمارية، على غرار حي الهضاب وقاوة والعديد من الأحياء الأخرى. وبمقارنة بسيطة بين وسط المدينة بالأخص ومعه بعض التوسعات العمرانية التي أشرف عليها مهندسون فرنسيون إبان الاحتلال الفرنسي، مثل حيي "شيمينو" و "بومرشي" اللذين يعتبران من أجمل الأحياء حتى الآن، وبين مناطق توسع حالية تم الذهاب إليها اضطراريا بسبب الكثافة السكانية التي تمركزت في وقت سابق وسط المدينة.. أحياء تعرف الفوضى وغياب النسق العمراني وبروز البنايات غير المكتملة، ما أثر في جمال المدينة بشكل واضح، فحي الهضاب الذي يعتبر أكبر منطقة توسع في سطيف طغى عليه طابع البنايات العمودية ممثَّلة في العمارات التي تفتقد للطابع الجمالي، مع إقدام السكان على إحداث تغييرات في الشرفات ومداخل العمارات وبناء غرف فوضوية في كل مكان، في غياب كامل للمصالح الإدارية وشرطة العمران التي تكتفي بمحاضر لا تسمن ولا تغني من جوع. في مقابل ذلك كانت الهندسة الفرنسة في بناء الحارات القديمة وسط المدينة بأياد جزائرية سطايفية خالصة، تعتمد على جعل مساحات كبيرة في وسط تلك الحارات، مع صرامة كبيرة في اعتماد لون موحد للبناءات وتصميم هندسي راق في كل مجمع سكني، تضاف إليه شرفات مفتوحة وواسعة مزينة بالورود والنباتات الخضراء لإعطاء متنفس للعائلات، هذا النموذج شجع أيضا الجزائريين من ذوي الطبقة المثقفة والميسورة الحال على انتهاج النمط نفسه في بناء منازلهم إبان الاحتلال.
اليوم بات من الضروري سعي الجهات المعنية، خاصة دواوين استغلال وحماية الممتلكات الثقافية، إلى تحقيق توأمة بين جهودهم في الحفاظ على مكنونات هذا الإرث الثقافي، إلى جانب توثيقه خطوة بخطوة مع الجهات الإعلامية، للتأكيد على أهمية تلك الحارات ولحفظ هويتها من الاندثار، ويتم ذلك من خلال وضع مجموعة من الخطط، ومن ثم السعي لتنفيذها، لتخرج من حيز الأوراق إلى الواقع، أضف إلى ذلك أهمية استخدام التقنيات الحديثة في توثيق تلك الحارات، ومن ثم يمكن إدراجها ضمن المواقع الإلكترونية لوزارة السياحة كأحد المعالم السياحية التي قد تهم زوار مدينة سطيف. ونشير أيضا إلى أننا لسنا بصدد الحديث هنا عن أساليب الترميم والحفاظ على الحارات القديمة، فهذا شأن أهل الاختصاص، لكن الحديث هنا يرتكز على وجهة نظر إعلامية تسعى لتعزيز دور الإعلام بكل أشكاله وصوره في توثيق وتصوير وسرد حكايات تلك الحارات، ونسج قصص درامية تعكس أنماط الحياة الاجتماعية ودورها في الثورة التحريرية في سطيف عبر الماضي.