اعتبر أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة ورڤلة، د.كاهي مبروك، أن الانقلاب العسكري الجديد في مالي أعاد البلاد إلى نقطة الصفر، معتبرا في حوار مع "الخبر" أن الوضع الأمني في دول الساحل يشكل خطرا على الجزائر. كيف يمكن تفسير دوافع وخلفيات الانقلاب العسكري الجديدة في مالي؟ ظاهريا؛ يبدو أن الدافع هو استياء العسكر من إقصائهم من الحقائب الوزارية، لكن هذا غير مبرر للقيام بهذه الخطوة غير المدروسة، وفي وقت غير مدروس، وهناك عدة افتراضات يمكن وضعها، من بينها قرب انتهاء المرحلة الانتقالية وعدم حصول الانقلابيين السابقين على ضمانات بعدم محاكمتهم ومتابعتهم قضائيا على إخلالهم بالنظام الدستوري. والافتراض الثاني، أن يكون الانقلابيون مدفوعين من جهات خارجية استاءت مما تعرفه المنطقة من انفراج، خصوصا في الأزمة الليبية، ومحاولة تخفيف الضغط ن ديبي الصغير في تشاد وخلط الأمور، وأيضا ما يحدث في المنطقة المغاربية في قضية الصحراء الغربية، والتوتر المغربي الاسباني بهذا الملف، والجهة نفسها التي ضغطت على وزير خارجية موريتانيا لزيارة المغرب والتخفيف من عزلته، والجهة نفسها التي استاءت من ترؤس الجزائر لمجلس السلم والأمن الإفريقي وتريد اختبار أدائها، أي يمكن قراءة أسباب الخطوة الانقلابية من عدة زوايا، لكنها تلتقي في تحقيق ضغط على أطراف وحصره وزيادته في مالي، والضحية الأولى هو الشعب المالي. والصراع بين روسياوفرنسا والعنصر التركي وارد جدا، ما يلاحظ أن خارطة إفريقيا الجيوبوليتيكية، لاسيما إفريقيا الفرانكفونية، أمام تغييرات جذرية، بدخول لاعبين جدد فاعلين ومؤثرين، وفقدان بعض اللاعبين لمراكز قوتهم، وهذه المرة المتغير التاريخي لن يكون وحده المحدد لهذه العلاقة؛ بل سوف يتدخل فيها العنصر الاقتصادي والديني والحضاري، وحتى الإرث القومي، وكلها مظاهر تتجلى في الحالة المالية.
وهل هناك أي دلالات لتوقيت التوترات السياسية الجديدة في مالي؟ الانقلاب العسكري جاء في توقيت خاطئ ويمكن وصفه بالعمل المتهور وغير محسوب العواقب، إذ أعاد البلاد إلى نقطة الصفر، والانقلابيون لم يدركوا بعد عواقب فعلتهم.. مالي دولة فقيرة، أنهكت الأزمة السياسية اقتصادها وزادته جائحة كورونا، والخطوة الانقلابية سوف تحرم مالي من عديد المساعدات الاقتصادية، ما ينبئ بانفجار شعبي وانفلات أمني يتحمل الانقلابيون تبعاته، فمجلس السلم والأمن الإفريقي لن يتسامح هذه المرة مع هذه الخطوة الانقلابية، وسوف يتخذ إجراءات أكثر صرامة مع الانقلابيين وقد لا يعترف بهم، ويطالب بعودة السلطة المؤقتة ومعاقبة المتهورين. أيضا ستزول الثقة من الدول الداعمة، وأبرزها الجزائر التي استقبلت الرئيس المؤقت ودعمته سياسيا وماليا. الانقلابيون سيجدون صعوبة في إقناع الجزائر من جديد للعودة للعب دورها، خصوصا وأن الجزائر تترأس مجلس السلم والأمن الإفريقي، أيضا اتفاق الجزائر للتسوية على المحك، فالموقعون على الاتفاق أكيد أنهم لن يضعوا ثقتهم في هذه السلطة الانقلابية، وعليه فإن الجهة التي دفعت الانقلابيين لهذه الخطوة فكرت في مصلحتها فقط وسوف تترك الانقلابيين يواجهون عواقب أفعالهم.
كيف يمكن قراءة الانقلابات المتكررة في مالي؟ الانقلابات في مالي أصبحت قاعدة والاستقرار هو الاستثناء، ويبدو أن هذا البلد لن يتخلى عن هذه الظاهرة السلبية في المدى المتوسط على الأقل، ويمكن إرجاع كثرة الانقلابات العسكرية في مالي إلى عدة أسباب؛ لعل أبرزها: ضعف تكوين النخب العسكرية في مالي وعدم إدراكها لدورها الحقيقي، وعدم تمكنها من الوصول إلى آليات أخرى تؤثر في القرار السياسي غير الانقلابات العسكرية، وعدم اهتمام المجتمع الدولي، لاسيما مجلس الأمن الدولي والاتحاد الأوروبي، بالقدر الكافي وإنزال عقوبات رادعة كما هو معمول ضد دول العالم الأخرى من إدانات، وغيرها من الإجراءات الردعية، أيضا عدم قدرة الاتحاد الإفريقي على إيقاف هذه الانقلابات، سواء في مالي أو غيرها، رغم الجهود المبذولة، لكنها غير كافية، يضاف إليها الفساد المستشري الذي تعرفه الدولة المالية وضعف المؤسسات الدستورية التي تضمن استمرار الانتظام القانوني واحترام الدستور.
كيف ستؤثر هذه الانقلابات على أمن مالي؟ وما هي انعكاسات الوضع الهش في المنطقة على حدودنا الجنوبية وعلى الهجرة غير الشرعية؟ الوضع الأمني في مالي هو من أساسه متردي، ولا تزال الدولة المركزية غائبة عن شمال البلاد والجماعات الإرهابية تصول وتجول في المنطقة، تزامنا مع تراجع تحالف برخان بقيادة فرنسا، والخطوة الانقلابية ستزيد الأمر تعقيدا في المنطقة، خاصة وأن تشاد في مرحلة انتقالية، النيجر لا تزال تخطو خطواتها الأولى نحو الممارسة الديمقراطية، الحركة الانقلابية سوف تكون تبعاتها على كامل المنطقة، وأتصور أن تقوم الدول المحاذية لدولة مالي، ومنها الجزائر، بإغلاق كامل حدودها البرية كوضع وإجراء احترازي، وانعكاسات الوضع في دول الساحل على الأمن الجزائري ستكون خطيرة من ناحية الهجرة السرية، والجريمة المنظمة والجماعات الإرهابية، لكن يبدو أن القيادة الجزائرية أخذت كل هذه التحديات محمل الجد من خلال نظرة استشرافية، والتمرينات العسكرية الأخيرة هي رسائل واضحة أن الضربة في عمق أراضي العدو، فصانع القرار في الجزائر اتخذ قراره بعدم انتظار الخطر حتى يدخل التراب الوطني، بل القضاء عليه في عمقه الاستراتيجي، وبطبيعة الحال هناك ترسانة قانونية من خلال التعديل الدستوري الأخير الذي يكفل اتخاذ مثل هذه الإجراءات.