بكثير من السطحية وبحرص شديد على تتفيه قضية عدم تسجيل المنتخب النسوي لكرة القدم للمشاركة في تصفيات أولمبياد باريس 2024، استعرضت الاتحادية الجزائرية لكرة القدم، موقفها من القضية وهي تطفو إلى السطح بعد نحو 14 شهرا على "حصول الخطأ"، فوقعت هيئة الرئيس جهيد عبد الوهاب زفيزف في تناقضات مثيرة للتساؤل. في البداية، تكتمت "الفاف" عن القضية التي حدثت في نهاية عهد الرئيس السابق، عمارة شرف الدين، وبنفس الأمين العام الحالي، منير دبيشي، ولم يكن ذلك "الحرص الشديد" في ردة فعل الاتحادية لتشتيت اهتمام الرأي العام حاضرا في اجتماعات المكتب الفدرالي منذ تولي زفيزف منصب الرئاسة خلفا لشرف الدين، وقد غابت عن جدول الأعمال منذ جويلية 2022 تلك النقطة المتعلقة ب"تغييب" المنتخب النسوي "قسرا"، رغم أن القرارات وبقوة قانون الاتحادات، تُتخذ باسم المكتب الفدرالي. وبالعودة إلى الوراء، وجبت الإشارة إلى أن الآجال التي تم منحها لكل الاتحادات الكروية لتسجيل منتخبي الإناث والذكور للمشاركة في التصفيات المتعلقة بالألعاب الأولمبية المقبلة، حُدّدت نهائيتها بيوم 29 أفريل 2022، على ضوء النشرية رقم 1792 والممضاة من طرف الأمينة العامة ل"الفيفا"، فاطمة سامورا، بتاريخ 11 أفريل 2022، وفي تلك الفترة كان الرئيس شرف الدين يعيش ضغطا رهيبا في أعقاب فشل المنتخب الأول في بلوغ مونديال قطر، حيث تصاعدت دعوات رحيله عن الاتحادية، وتم تحميله تبعات الإقصاء وليس المدرب الوطني، إلى درجة أن الوزير السابق للشباب والرياضة، ضغط عليه بشدة حتى يُجبره على عدم الالتحاق بمكتبه في مقر "الفاف". وأمام "الفوضى" والضبابية حول مستقبل المكتب الفدرالي، وتحوُّل الحديث إلى ضرورة رحيل الرئيس شرف الدين وأعضاء مكتبه، كانت مراسلة "الفيفا" قد تلقاها الأمين العام منير دبيشي على "الإيمايل"، واختار "استشارة" المدير الفني الوطني المؤقت، توفيق قرشي، في الأمر، وما كان من الأخير سوى تقديم النصيحة له بضرورة العودة إلى المنتخبين قبل رحيلهم، غير أن دبيشي لم يقم بذلك وانفرد في اتخاذ قرار من صلاحية المنتخبين، بعدم تأكيد مشاركة المنتخب النسوي، رغم أن الوضع كان يتطلب منه، على الأقل، تأكيد المشاركة في التصفيات وانتظار ما ستُفضي عليه الأوضاع في الاتحادية، خاصة وأن الأمر كان يتعلق ب"آجال" وجب احترامها.
مَن يخطئ هو دبيشي ومَن يدفع الثمن هو قريشي
واللافت للانتباه "تبرير" الاتحادية للفضيحة، من خلال ذلك البيان المنشور على موقع "الفاف" بتاريخ 30 ماي 2023، والذي يعتبر إقرارا من "أصحابه" على تمييع القضية وتجنيب تحديد المسؤوليات، خاصة وأن "خلاصة" البيان حمل عبارة غامضة مبنية للمجهول، حيث كُتب ما يلي "في غياب منتخب وطني في تلك الفترة وقسم لكرة القدم النسوية، لم يتم اعتبار أمر تسجيل هذا المنتخب مجديا". هذه العبارة تؤكد قطعا أن الرئيس الحالي ل"الفاف" يريد "حماية" الأمين العام الحالي والسابق، بصفته (الأمين العام دبيشي) صاحب القرار الانفرادي في عدم تسجيل المنتخب النسوي، طالما أنه، في تلك الفترة، لم يكن هناك تقريبا منتخبين على مستوى الاتحادية بسبب الفوضى ومطالبة الرأي العام وحتى الوزير السابق برحيلهم، بدليل أن "أصواتا" تعالت بعد انتشار الفضيحة، منهم صوت جهيد زفيزف نفسه، من أجل إلصاق "الخطأ" بسابقه عمارة شرف الدين وبالمدير الفني الوطني بالنيابة السابق، توفيق قريشي، دون ذكر اسم دبيشي على الإطلاق. ومن الغريب أن يشهد اليوم الموالي لنشر البيان على موقع "الفاف" إنهاء مهام قريشي من المديرية الفنية الوطنية، وهو (قريشي) الذي وجد نفسه "معزولا" وغير مرغوب فيه منذ تولي مصطفى بسكري وزهير جلول شؤون المديرية الفنية الوطنية، ويقود هذا الواقع إلى قناعة أن حرص زفيزف على اتهام شرف الدين ضمنيا في تصريحاته الإعلامية، ثم إقدامه على "ترحيل" قريشي الذي كان على وفاق مع شرف الدين، يصب في سياق "تصفية الحسابات" باستغلال قضية عدم تسجيل المنتخب النسوي. ثم إن قول مسؤولي الاتحادية بأن عدم وجود منتخب وطني للسيدات في تلك الفترة ولا حتى قسم لكرة القدم النسوية وراء اتخاذ القرار (دون الإشارة صراحة إلى صاحب القرار)، يحمل مغالطة كبيرة، حيث أن نشرية "الفيفا" رقم 1792 بتاريخ 11 أفريل 2022، لم تطلب من الاتحادات سوى تأكيد مشاركة منتخبي الذكور والإناث بوضع علامة على الخانة ثم إعادة إرسالها، ولم يكن هناك أي مطلب إلزامي بتسجيل اللاعبات والطاقم الفني للمنتخب النسوي، وهو إجراء يتم، دوما، بعد فترة طويلة على تأكيد المشاركة. وبعبارة بسيطة، فإن تبرير الاتحادية عار من الصحة، والدليل فحوى نشرية "الفيفا"، لأن إقصاء المنتخب النسوي في فيفري 2022 أمام منتخب جنوب إفريقيا من المشاركة في نهائيات كأس أمم إفريقيا، وانتهاء مهام أعضاء الطاقم الفني تلقائيا، لم يكن سببا في عدم التسجيل، فالأمر وقتها لم يكن يعدو تسجيل المشاركة دون مطالبة الاتحادات، على خلاف ما تدّعيه "الفاف" في بيانها، بضرورة إدراج أسماء اللاعبات والمدربين في منصة خاصة ب"الفيفا"، خاصة وأن المدة التي تفصل بين تأكيد المشاركة وبين انطلاق التصفيات هي 14 شهرا كاملا.
المهم .. التنصّل من المسؤولية واتهام الآخرين ..
ولا يمكن عدم التوقف عند قضية إنهاء مهام توفيق قريشي والإبقاء على الأمين العام في نفس يوم الفضيحة تقريبا، وهو يوم تم فيه الإعلان عن قائمة المنتخب الوطني من طرف المدرب جمال بلماضي، 13 يوما قبل موعدها الإعتيادي، على خلاف العادة، وكان ذلك أحد المؤشرات لدى الكثيرين على أن "الفاف" استغلت شعبية بلماضي والشغف الجماهيري بالمنتخب لتشتيت اهتمام الرأي العام بنفس الطريقة التي تركت فيه "الفاف" الانطباع وهي تُنهي مهام قريشي، على أنها قد "عاقبت" المتسبب في الفضيحة أو في الخطأ الجسيم، على الرغم من أن المسؤولية يتحمّلها الأمين العام منير دبيشي وحده دون سواه. ولم يتوقف المنطق السائد على مستوى اتحادية زفيزف، المتوارث من عهد خير الدين زطشي والمبني على أساس التنصّل من المسؤولية واتهام الآخرين، عند حدّ جعل قريشي "كبش فداء"، بل تعدّى ذلك بكثير، من خلال تركيز زفيزف، في تصريحات إعلامية على سابقه شرف الدين وتحميله ضمنيا مسؤولية عدم تسجيل المنتخب النسوي لكرة القدم، بقوله "حرفيا" ودون تردّد "هذا الأمر لا يعنيني .. حين توليت مهامي وجدت الأمر قد حُسِم .. والفدرالية آنذاك ارتأت أنها لا تُسجِّل الإستمارة .. وبالتالي لا يعنيني هذا الأمر.."، ليضيف، مدافعا عن "أمينه العام" الذي احتفظ بمنصبه الذي شغله في عهد عمارة شرف الدين، بعد سؤال مفاده إن كان دبيشي يتحمّل المسؤولية، بقوله "هذا كلام لا أساس له من الصحة.."، قبل أن يهمّ بالانصراف لتفادي الحرج أو ضرورة تقديم تفاصيل أخرى حول "عدم صحة" مسؤولية منير دبيشي، بما قطع الشك باليقين بأن إطلالة زفيزف الإعلامية خلال الفضيحة لم يكن الهدف منها سوى التنصل من المسؤولية وتبرئة أمينه العام واتهام سابقه شرف الدين ومقربيه.
لعبة التواريخ تفضح زفيزف
وخلال نفس التصريحات الإعلامية، راح زفيزف يُلمّع صورته بتوظيف نفس المنتخب النسوي للقول إنه أفضل من سابقه وأكثر اهتماما منه بكرة القدم النسوية. وقال زفيزف وبصوت عال، وهو يعود للاقتراب من الميكروفونات لتمرير رسالة، بدا أنه تذكّرها لتوّه "هناك شيء آخر .. أنا أول شيء قمت به، قبل أن أقوم حتى بتنصيب المديرية الفنية، هو تنصيب قسم كرة القدم النسوية، واستقدمت أكبر خبير في أوروبا..". هذا الكلام تقابله تواريخ "رسمية" نجدها على موقع الاتحادية نفسه، تفنّد "تأكيد" زفيزف بأنه قام بتنصيب قسم كرة القدم النسوية قبل تنصيبه للمديرية الفنية الوطنية، وليس هناك أية تفسيرات ل"اندفاع" رئيس "الفاف" بحماس "مبالغ فيه" لتسويق نفسه أنه أكثر اهتمام وتقدير بكرة القدم النسوية مقارنة بعمارة شرف الدين. وبالعودة إلى ما نشرته "الفاف" على موقعها، فإننا نجد خبرا بتاريخ 28 ديسمبر 2022 تمت صياغته كالآتي: "من بين الملفات التي تم التطرق إليها خلال اجتماع المكتب الفدرالي يوم الأحد 25 ديسمبر 2022 بالمركز التقني لسيدي موسى، برئاسة السيد جهيد زفيزف، هو كرة القدم النسوية .. علاوة على النقاط المطروحة من طرف المدير الفني الوطني الجديد، السيد مصطفى بسكري .. تم هناك موافقة على تعيين السيد فريد بن ستيتي على رأس قسم تطوير كرة القدم النسوية". هذه الفقرة وحدها تكفي لتفضح رئيس "الفاف" وتثبت بأن إعلان زفيزف بإقدامه على تنصيب "أكبر خبير في أوروبا"، وهو فريد بن ستيتي، على رأس قسم كرة القدم النسوية قبل تنصيب المديرية الفنية الوطنية، كلام غير صحيح، بدليل إعلان "الفاف" في بيانها بتاريخ 28 ديسمبر 2022، بأن الإتفاق على تعيين بن ستيتي يوم 25 ديسمبر 2022 على رأس قسم كرة القدم النسوية تم بحضور المدير الفني الوطني الجديد مصطفى بسكري. ثم إن نفس موقع "الفاف" يشير صراحة، في بيان تم نشره بتاريخ 30 نوفمبر 2022، أي قبل 25 يوما عن تنصيب فريد بن ستيتي على رأس قسم كرة القدم النسوية، بأن بسكري تم تنصيبه مديرا فنيا وطنيا جديدا، بما يجعل التساؤل مشروعا حول "الخلط" في المواعيد والتواريخ لرئيس "الفاف"، وهو خلط يقودنا إلى التشكيك، مستقبلا، في أية كلمة يقولها طالما أنه لم يقدّم معلومة صحيحة حول مَن سبق الآخر في التنصيب بين بسكري وبن ستيتي، رغم أن موقع "الفاف" واضح في هذا الشأن. والملفت للانتباه، أيضا، في "لعبة" التواريخ، أن مصدر من "الفاف" أكد بأنه تم مراسلة "الفيفا" في جانفي 2023 بغرض الاستفادة من ترخيص استثنائي لتسجيل المنتخب النسوي، أي بعد تسعة أشهر كاملة عن "خطأ" الاتحادية السابقة، غير أن "الفيفا"، حسب نفس المصدر، رفضت الطلب الجزائري. وحين نعود إلى تصريح مسجل للمسؤول الجديد على قسم كرة القدم النسوية، فريد بن ستيتي، يوم 14 أفريل 2023، على موقع "الفاف"، نجده يقول "حتى لا أقول حماقة، نحن ننتظر ردّ "الفيفا" بخصوص إمكانية تسجيل المنتخب النسوي خارج الآجال استثنائيا.."، وهو تصريح أدلى به بعد سنة كاملة عن انتهاء الآجال الرسمية (في 29 أفريل 2022)، بما يجعل من السؤال التالي مشروعا أيضا: "متى أرسلت اتحادية زفيزف طلب التسجيل الإستثنائي ل"الفيفا"، حتى ظلت تنتظر الردّ في 14 أفريل 2023"؟
كرة القدم .. من سيئ إلى أسوأ
وقبل الإجابة عن السؤال، فإن ما يُفهَم من تصريح بن ستيتي العفوي أن جهيد زفيزف لم يكلف نفسه، منذ تاريخ تنصيبه في جويلية 2022، عناء محاولة معالجة قضية عدم تسجيل المنتخب النسوي والتواصل مع "الفيفا" مبكرا وتقديم ذلك الطلب من أجل الاستفادة من التسجيل الاستثنائي، وانتظر "صاحبنا" قدوم "الخبير الكبير" في أوروبا حتى يأخذ منه الأمر أو على الأقل حتى يُنبّهه بأن التسيير العقلاني يفرض عليه "تجريب حظه" مع "الفيفا"، مما جعل الطلب الجزائري "الاستثنائي" ل"الفيفا" يتأخّر بسنة كاملة بدلا من ثلاثة أشهر فقط، وكان من الممكن أن تصبح تلك المدة الزمنية التي غفل عنها "رئيس الاتحادية الكبير" فارقة في تحديد موقف "الفيفا" من الطلب الجزائري. هكذا تسير أمور كرة القدم الجزائرية للأسف .. من سيئ إلى أسوأ، وتجعلنا الأحداث نتأسف أكثر عن "الزمن الماضي"، في وقت كنا فيه نتطلع إلى ما هو أفضل، ونحرص على تسليط الضوء على الأخطاء لتصحيحها، أبرزها "منطق الانتقام من الآخر"، بما يضر بمصلحة الجزائر كرويا في الخارج، لنجد أنفسنا اليوم أو واقع مرير يقضي في نفوسنا على بصيص الأمل في إمكانية النهوض بكرتنا أمام مسؤولين منطلقهم الفكري أو مشروعهم الرياضي مبني أساسا على "تسويد" صورة الغير، مع ممارسة هواية تسويق الأعذار والتبريرات التي تصب في مفهوم واحد تنطبق عليه مقولة "رُبّ عذر أقبح من ذنب".