دخلت ورقة الضغوط الاقتصادية أداة ضغط متبادل بين روسيا والدول الغربية، في مسعى منهما لإضعاف موقف الآخر وإنهاكه اقتصاديا على خلفية تطورات الموقف في شبه جزيرة القرم. ففي الوقت الذي طالبت فه السلطات الأوكرانية الدول الغربية باستغلال هذه الورقة لتركيع روسيا، سارعت موسكو إلى إعادة النظر في أسعار غازها المسوق إلى أوكرانيا في رد فعل مماثل على هذه الدعوة. ولجأ الفرقاء إلى استخدام الورقة الاقتصادية بعد أن استحال عليهم اللجوء إلى خيار القوة لتفويت مخططات الطرف الآخر بالنظر الى قناعة كل منهما أن طلقة نار واحدة ستكون لها عواقب كارثية على السلم العالمي بأكمله. وفي تحد واضح للضغوط والعقوبات الاقتصادية الأمريكية والأوروبية ضد بلاده وخاصة إضافة شخصيات روسية إلى قوائم الشخصيات المعاقبة دوليا بحكم علاقاتها بالأزمة الأوكرانية وإدراج البنك الوطني روسية ضمن هذه العقوبات، قال الرئيس فلاديمير بوتين إنه سيفتح حسابا بنكيا فيه في نفس الوقت الذي أكد فيه وزيره للخارجية سيرغي لافروف أن المحاولات الرامية إلى عزل روسيا اقتصاديا ستكون عديمة الجدوى وستنتهي إلى طريق مسدود. وجاءت مواقف بوتين ولافروف بعد مصادقة المجلس الأعلى للغرفة العليا في البرلمان الروسي على قرار رسم من خلاله ضم شبه جزيرة القرم إلى فيدرالية روسيا. وضمن هذه المقارعة المحتدة بينها وبين موسكو وقعت دول الاتحاد الأوروبي والسلطات الأوكرانية الجديدة، أمس، على اتفاق شراكة سياسية أرادت من خلاله بروكسل تأكيد وقوفها ودعمها للسلطات الأوكرانية وأن قرار اقتطاع القرم لا يجب أن ينظر إليه على انه نهاية العالم لدولة أرادت أن تغير وجهتها من الشرق باتجاه الغرب. وسارعت روسيا إلى التقليل من أهمية هذا الاتفاق وأكدت على لسان وزيرها للخارجية، سيرغي لافروف، أنه لم يأت لخدمة مصالح اقتصادية بقدر ما فرضته حسابات جيو إستراتيجية في تأكيد على أن الدول الغربية إنما وقفت مع أوكرانيا من أجل التضييق على بلاده في مجالها الحيوي القريب جدا من حدودها الدولية. يذكر أن هذا الاتفاق كان بمثابة الشرارة الأولى التي أشعلت فتيل الحرب الأوكرانية ضد الرئيس فيكتور ايانوكوفيتش، شهر ديسمبر الماضي، وهو الذي كان يوشك على التوقيع عليه قبل أن يتراجع في آخر لحظة تحت ضغوط روسية متزايدة. وبدلا من أن تصب نتائج تلك "الثورة" في صالح السلطات الأوكرانية الجديدة إلا أنها انقلبت ضدها إذا سلمنا أن فقدانها إقليما يكتسي أهمية إستراتيجية دولية بقيمة شبه جزيرة القرم يعد أكبر خسارة لا يمكن تعويضها بأموال غربية. ويمكن القول إنه بعد قرار الغرفة العليا في البرلمان الروسي بضم القرم وبين وتوقيع اتفاق الشراكة السياسية بين كييف والاتحاد الأوروبي تكون روسيا وأوروبا قد قطعت كل سبيل لإمكانية التوصل الى اتفاق ولو ظرفي حول اكبر أزمة تعترض علاقاتهما منذ انهيار المعسكر الشيوعي وتحول فيدرالية روسيا إلى قوة اقتصادية ليبرالية. ويتأكد في ظل إفرازات هذه الأزمة أن الدول الأوروبية وجدت نفسها في مأزق حقيقي مما جعلها تكتفي إلى حد الآن بفرض عقوبات على شخصيات روسية مقربة من الرئيس بوتين أو شخصيات أوكرانية موالية لموسكو ولكنها لم تتجرأ على الذهاب الى ابعد من ذلك حفاظا على مصالحها الاقتصادية ومشاريعها الاستثمارية في روسيا سواء منها المدنية أو العسكرية. ويكون ذلك هو الذي جعل الوزير الأول الأوكراني الذي وقع اتفاق الشراكة السياسية، أمس، بالعاصمة الأوروبية، يحث الدول الغربية على فرض عقوبات أكبر وقعا على الاقتصاد الروسي بعد أن رأى وهن الموقف الغربي في التعاطي مع أزمة بلاده التي فقدت قلبها النابض على ضفاف البحر الأسود. والأكثر من ذلك، فقد خسرت أوكرانيا أيضا صفة المتعامل التفاضلي مع موسكو التي كانت تبيعها غازا روسيا بأسعار تنافسية وقررت، أمس، فرض منطق السوق الدولي على مبيعاتها من هذه المادة الحيوية وهو ما يزيد في متاعب الحكومة الأوكرانية الجديدة التي وجدت نفسها في قلب أزمة لم تكن تتوقع تبعاتها أو ربما حتى التعامل مع انعكاساتها.