يعد الملاكم نور الدين برحمة من بين الملاكمين الجزائريين الذين سجلوا إسمهم في سجل الرياضة الجزائرية بأحرف من ذهب.. تألقه وقوته فوق الحلبة جعلاه يفتك لقب "ملك الضربات القاضية"، لكن الظروف الصعبة التي واجهها فرضت عليه ترك الحلبة وهو في عز عطائه ... "المساء" حاورته في جلسة حميمية جمعت بين الافتخار والاعتزاز بإنجازات الماضي والتأسف على التهميش الذي طاله مع الكثير من رفاقه ممن تبقى الذاكرة الرياضية الوطنية وحتى العالمية تحتفظ بإنجازاتهم. - كيف كانت بدايتك مع الملاكمة؟ * مسيرتي الرياضية بدأت عام 1956 مع الكرة في الشوارع قد تمكنت من جلب انتباه الكثير من المدربين في النوادي العاصمية على غرار مولودية الجزائر التي حملت ألوانها لفترة قصيرة جدا لم تتجاوز ثلاثة أشهر، قبل أن أغير وجهتي نحو رياضة أخرى لا تقل شعبية ويتعلق الأمر بالملاكمة التي كنت أعشقها كثيرا، ووجدت أن الحلبة ستمكنني من التعبير عن إمكاناتي بشكل أفضل من المستطيل الأخضر، واندمجت فيها رسميا سنة 1959 وعمري لم يتجاوز ال 17 عاما. - يقال بأن أسرتك لعبت دورا كبيرا في نجاحك؟ * هذا أكيد، فلولا أسرتي التي شجعتني كثيرا لما تمكنت من تحقيق الانجازات، بطبيعة الحال نشأتي وسط عائلة رياضية فتحت أمامي أبواب التألق، حيث كان شقيقاي الكبيرين مصطفى وعبد الحميد لاعبين مثاليين، الأول برز مع عميد الأندية الوطنية، والثاني حمل ألوان الاتحاد العاصمي لفترة طويلة، أما أخي الثالث عبد المؤمن فاستطاع أن يفرض نفسه بطلا في الرياضة الجامعية والأخ الصغير عبد الغاني كان هو أيضا بطلا في الجيدو. وأعتقد أن العيش في ظل هذا الجو الرياضي المحض يعطيك دفعا قويا يساعدك على التألق. - ما هي الأندية التي حملت ألوانها في الملاكمة؟ * تقمصت ألوان فريقين طوال مشواري الرياضي ويتعلق الأمر ب " A.B.C" النادي العاصمي للملاكمة الذي كان يعد من بين أعرق وأفضل الأندية في العاصمة، حيث أنجب نجوما عديدة سطعت في سماء الجزائر، يتقدمهم "عبد القادر ولد مخلوفي"، في السنة الموالية 1963 انتقلت إلى نادي اتحاد العاصمة الذي أنهيت فيه مشواري. - في ظل هذه السنوات، هل تلقيت عروضا من فرق أخرى؟ * بالفعل، تلقيت عروضا من فرق عديدة غير أنني رفضتها لأن نادي" A.B.C" كان يتوفر على كل الشروط الضرورية لضمان نجاح أي ملاكم، بالإضافة إلى وجود مدربين محترفين، وهي عوامل تحفز كل ملاكم على تطوير مستواه، بدليل الأسماء الكبيرة التي تخرجت من هذا النادي وتألقت ليس فقط محليا، بل على الصعيد العالمي. فزت بأول لقب في عامي الأول - بما أنك خضت 300 منازلة، الأكيد أن سجلك يحمل الكثير من الإنجازات الرائعة؟ * فزت بالعديد من الألقاب المشرفة، حيث تحصلت على لقب البطولة الوطنية في أول مواجهة لي عام 1959 بالضربة القاضية على حساب دريش من اتحاد الحراش. في 1960 نلت لقب بطل الجزائر العاصمة، كما تأهلت إلى نهائي البطولة الوطنية، إلا أنني فشلت في الاحتفاظ بالتاج، بسبب وعكة صحية مفاجأة أثرت علي وأجبرتني على التوقف عن التدريبات والمنازلات الرسمية لمدة سنتين لأعود سنة 1962، حققت بعدها عدة انتصارات بدايتها كان الفوز أمام بطل ناحية وهران بخدة، هذا لانتصار الذي سمح لي بالالتحاق بالمنتخب الوطني الذي كان يستعد للمشاركة في الألعاب الإفريقية.. في العام الموالي توجت في منازلة ساخنة أمام محي الدين من اتحاد البليدة ببطولة الجزائر العاصمة في منازلة انتهت بالضربة القاضية في الجولة الاولى، ومنذ ذاك الحين أصبحت ألقب ب"ملك الضربة القاضية "، وواصلت حصد النتائج الايجابية إلى آخر لحظة من مشواري، وكانت جميع منازلاتي بالأخص الأخيرة منها، ذات طعم خاص. - ماذا تعني بطعم خاص؟ * كانت مرتبطة بأحداث تحمل دلالات كثيرة بالنسبة لي، فبعدما كنت أسيطر على المنافسات المحلية بصورة مطلقة التحقت بصفوف المنتخب الوطني في محطاته الأولى أعوام 1962، 1963، 1964.. وبالرغم من أنني لم أتعاف تماما من المرض إلا أن الانطباع الذي تركته دفع بالجهاز التقني بقيادة عبد النور محمد إلى أن يعلق علي آمالا كبيرة في المنافسات الدولية.. وأذكر أننا خضنا دورة بالجزائر ضد المنتخب الإسباني في أوت 1963 بتشكيلة كامن تضم كلا من قويدر، ولد مخلوفي، مامو وبوحفص.. كانت النتيجة بعد إجراء أربع منازلات التعادل، فجاء دوري الذي حسمت به الموقف لصالحنا عقب تغلبي في المواجهة الفاصلة على خصم عنيد ويتعلق الأمر بالبطل ايستنيسلاس بيازر، وهو انتصار حمل طعما خاصا مثل انتصارات أخرى عديدة. دورة داكار من أسوأ ذكرياتي - لكنك انسحبت من عالم الملاكمة مبكرا؟ * الظروف القاسية التي عشتها في محيط الملاكمة هي التي جعلتني أقرر الانسحاب، وقد بدأت أفكر في ذلك بسبب ما حصل في دورة دكار الدولية في افريل 1963 التي تبقى من أسوء ذكرياتي، حيث دخلنا المنافسة في ظروف مزرية لأسباب مرتبطة بالإقامة، الإطعام وكذا غياب الطاقم الطبي، الذي من المفترض أن يوفره المنظمون.. الغريب أن هذه المتاعب واجهتنا نحن فقط، بينما المنتخبات الأخرى حظيت برعاية خاصة على غرار المنتخب التونسي الذي نزل بفندق فخم مرفوقا بطاقم طبي طيلة التظاهرة. هده الحادثة جعلتني أفكر في الاعتزال المبكر، وجسدت الفكرة عقب ما جرى لي في لقاء ضد المنتخب المغربي عام 1964، حيث تم منعي من المشاركة في المنازلة بحجة تجاوزي الوزن القانوني ب 9 غرامات، حجة كانت غير مقنعة للطاقم الفني الوطني لأن الأمر يتعلق ببعض المليغرمات، لكن وبعد أخد ورد ومناورات في الكواليس تم تعويضي بالزميل بوحفص، الذي انتزع الفوز بسهولة في اللحظات الأولى من المواجهة.. وكانت هذه الدورة آخر مرة أصعد فيها الحلبة. - هكذا انتهت الحكاية مع القفاز؟ * لا، فبعد سنتين ألح علي بعض الأصدقاء المعجبين بطريقة ملاكمتي بالعودة إلى الحلبة وكان لهم ذلك، حيث خضت منازلتين فقط قبل تطليقي رسميا لهذه اللعبة سنة 1966، حيث شعرت قبل صعودي الحلبة في إحدى المواجهات، أنني تحولت إلى مقاتل إغريقي لا يهزم، أحسست حينها وسط هتافات الجمهور أن خصومي ليسوا في مستواي، فعلقت القفاز ووضعت حدا لمشواري مع الفن النبيل دون رجعة. للأسف لم يطلب مني أي أحد نقل خبرتي إلى المواهب الشابة - ثم ماذا حدث، ألم تفكر في وضع خبرتك لصالح الأجيال الصاعدة؟ * أردت ذلك لكن للأسف لم يطلب المسيرون الذين تعاقبوا على الاتحادية خدماتي، إلا أنني أنجزت دراسات عديدة عرضت فيها أفكارا تتعلق بطريقة التعامل مع الرياضي بصورة عامة، والمواصفات المقاييس التي لابد أن تتوفر في الملاكم، علاقة هذا الأخير بالمدرب، لأن الجانب النفسي يلعب دورا كبيرا في الإعداد، كما كانت لي مساهمات في الشق التسييري المانجمانت انطلاقا من خبرتي كمسير بنك. - ما الفرق بين ملاكمة الأمس واليوم؟ * ملاكمة اليوم ابتعدت كثيرا عن أصولها التي تمتاز بالفنيات العالية والقدرة على التحمل، مما افقدها البريق التي كانت تتمتع به بعدما باتت مختلفة تماما عن تلك التي كانت تمارس في سنوات الستينتات، حيث أصبح الملاكم يهتم أكثر بالتنقيط الذي يعتمد على عاملي السرعة والفعالية على حساب الفرجة.. لكن رغم ذلك يمكن القول أن البعض من ملاكمينا، خاصة القدامى منهم، حافظوا على الركائز الأساسية للفن النبيل، والدليل على ذلك امتلاء القاعات عن أخرها في المواعيد الوطنية والدولية. - على ذكر الملاكمين الجزائريين، كيف يرى السيد برحمة مستواهم؟ * ما دام الجمهور يواضب على حضور المنازلات، فالملاكمة الجزائرية تبقى قادرة على العودة إلى الواجهة. أكيد أن الجميع لاحظ أن المستوى قد تراجع في السنوات الأخيرة، في ظل غياب النتائج، وهو أمر يبعث على الأسف والحسرة أمام الإنجازات التي حققتها أسماء كبيرة أعطت الكثير للقفاز الجزائري. مستوى العناصر الوطنية يبعث على التفاؤل - تتحدث عن تراجع المستوى والنتائج في الوقت الذي وصلت ثمانية عناصر إلى اولمبياد بكين، وهو إنجاز يعد الأول في تاريخ الملاكمة الجزائرية؟ * حقيقة تعد حصيلة تاريخية مفخرة للملاكمة الجزائرية، فمستوى العناصر الوطنية الحالية يبعث على التفاؤل والأمل في تجديد العهد مع الانتصارات الكبيرة، خصوصا في أكبر حدث رياضي عالمي. - هل من إضافة؟ * هذه الدردشة أرجعتني إلى فترة المجد والانتصارات، وجريدتكم مشكورة على ذلك، كما أريد أن أوجه نداء إلى السلطات المعنية، باستغلال كفاءات الماضي لهذه الكتلة الشبانية التي تتمتع بها بلادنا، التي تحمل في طياتها الإرادة والقدرة على رفع التحدي لتشريف الألوان الوطنية، وذلك بتوفير الإمكانات والوسائل التي من شأنها