كثيرة هي الأسماء التي خطفت الأضواء إبّان الفترة الاستعمارية، من بينهم الملاكم عبد الوهاب مدني الذي كان ينازل من أجل الجزائر رغم أن الظروف التاريخية فرضت عليه وعلى غيره من الأبطال على غرار شريف حامية وبوب عمر حمل الألوان الفرنسية··"المساء" حاورته في جلسة حميمية جمعت بين الافتخار والاعتزاز بإنجازات الماضي والتأسف على التهميش الذي طال مدني ورفاقه ممن تبقى الذاكرة الرياضية الوطنية وحتى العالمية تحتفظ بإنجازاتهم· - كيف كانت بدايتك مع الملاكمة؟ * مسيرتي مع الفن النبيل انطلقت عام 1949حيث كان عمري لا يتجاوز16سنة· اختياري لهاته اللعبة جاء بتشجيع من المدرب الإيطالي الشهير"ديسكا" الذي شهدني في إحدى منازلات شقيقي الأكبر عبد الوهاب إبراهيم "رحمة الله عليه"، فأعجبه حماسي والكيفية التي كنت أشجع بها أخي لأحثه على الفوز، طريقة مزجت بحركات واستعراضات التي جلبت أنظار الجمهور بشكل لافت، وعقب انتهاء المواجهة سارع "ديسكا" بإدماجي في فريقه "مجمع لاييك" الذي يسمى حاليا المركب الرياضي غرمول· وكان مجمع "لاييك" للملاكمة من أشهر وأعرق الأندية في العاصمة، حيث أنجب نجوما كبيرة سطعت في سماء الجزائر يتقدمهم أمير الحلبة "شريف حامية"· - هل توقفت عند مجمع "لاييك" أم كانت لديك تجارب مع أندية أخرى؟ * تلقيت عروضا من أندية عديدة غير أنني رفضتها انطلاقا من توفر مجمع "لاييك"على كل شروط العمل، إلى جانب مدربين محترفين، وهي عوامل تحفز كل ملاكم على تطوير مستواه بدليل الأسماء الكبيرة التي تخرجت منه و تألقت ليس فقط محليا بل على الصعيد العالمي· واستمر مشواري في صفوف المجمع إلى غاية 1953، تاريخ انتقالي إلى فرنسا، حيث التحقت بنادي "سيرك عمار" الذي أتاح لي فرصة الالتقاء بملاكمين عالميين ومنازلتهم وذلك بفضل ِتجوالنا عبر القارات الخمس· - لماذا قبلت خوض المنافسات حاملا ألوان العلم الفرنسي؟ * كانت الأندية في حقبة الاستعمار كما هو بديهي تحت إشراف وإدارة الاحتلال الفرنسي، وكوني لم أستطع مقاومة رغبتي في ممارسة لعبتي المفضلة والتي أعشقها ولازلت إلى النخاع، قبلت العرض بدون أية عقدة و وافقت على خوض المنافسات الرسمية تحت المظلة الفرنسية لسبب واحد يتعلق بإصراري على البروز وإظهار ماذا يمكن للجزائري أن يفعله آنذاك· كنت دائما أعتز بانتمائي لوطني الجزائر وأفتخر بكل خصوصيات بلدي وحملي لألوان فرنسا فرضته الظروف التي يعرفها الجميع· إنها حقيقة تاريخية تعاملنا معها دون أن تنسينا في أصولنا وحلمنا بالحرية· - بما أنك لاكمت في100 منازلة، فالأكيد أن هذا السجل المجهول لدى الكثير ثري بالإنجازات الرائعة ؟ * الحمد للّه، تمكنت من معانقة العديد من الألقاب المشرفة الملاكمة الجزائرية، حيث تحصلت على تاج "تحدي باستوس" عام 1950 في منازلة ساخنة أمام بطل فرنسا "بورسال" احتضنتها مدينة وهران، مع العلم فإن للوصول إلى هذه المحطة يجب على الملاكم إجراء ثماني منازلات متتالية على الأقل، تلتها جائزة"تحدي بوب عمر" سنة 1951، وبعدها كأس مكاوي في العام الموالي1952، إضافة إلى انتزاعي لعدة ألقاب في البطولات الفرنسية وواصلت حصد النتائج إلى آخر لحظة من مسيرتي، لحظة كانت رائعة لأنني علقت القفازبإنجاز ذي طعم خاص وكنت في أوج عطائي·· - ماذا تعني بإنجاز ذي طعم خاص؟ * مثلما ذكرت سابقا نشاطي في صفوف" سيرك عمار" جعلني أحتكر الواجهة بدون منازع وأسيطرعلى المنافسات الأوروبية بصورة مطلقة، الأمر الذي ترك بطل فرنسا عام 1962 فليبيي يلح على مواجهتي و وافقت دون تردد، وتم ضبط موعد المنازلة في ظرف قياسي، وعرفت إقبالا جماهيريا كبيرا، وجرت في ظروف تنظيمية مميزة وغلب عليها الطابع الحماسي وقدم كل واحد منا أفضل ما لديه من الحركات التقنية والاستعراضات الفنية، وكانت معظم الجولات لصالحي، حيث سجلت عدة نقاط وكنت على عتبة الفوز، لكن و في الوقت الذي أشرفت فيه المنازلة على النهاية تلقيت لكمة غير قانونية، لأنها جاءت في وقت مستقطع، والشيء الذي زاد من تعقيد الأمورأن الإصابة كانت بليغة جدا مما جعل الطبيب "بوش" ينهي المواجهة قبل وقتها الأصلي، وبعدها تدارك فليبيي الموقف واعتذرلي أمام الملأ و اعترف بانتصاري عليه عن جدارة واستحقاق ·· كان ذلك في نهاية 1962· - وماذا عن حكايتك مع" أمير" الحلبة شريف حامية ؟ * شريف حامية هو صديق الدرب ورفيق العمر، دخوله لعالم الملاكمة كان 1952، ويجمع الملاحظون والمتتبعون أننا نملك نفس التقنيات إلى درجة أن هناك من لا يفرق بين طريقته وطريقتي المنتهجة فوق الحلبة، وكان شريف أحد أبرز ما أنجبت الملاكمة الجزائرية حيث توج بالبطولة الأوروبية بفارسوفيا البولونية، قبل أن يخطف الأضواء في العام 1957 بباريس من خلال انتزاعه اللقب العالمي في وزن الريشة متفوقا على منافسه البلجيكي" جون سيتر" بالنقاط · وبعد الاستقلال انضم شريف حامية إلى قافلة مشيدي الحركة الرياضية الجزائرية الحديثة وكلف بترقية رياضة الفن النبيل على مستوى شركة سوناطراك بين سنتي 1969 و1974 قبل أن يتولى الإشراف على المغتربين الجزائريين بين عامي1974 و 1978. - ما الفرق بين ملاكمة الأمس واليوم؟ * ملاكمة اليوم ابتعدت كثيرا عن أصولها التي تمتاز بالفنيات العالية والقدرة على التحمل، مما أفقدها البريق التي كانت تتمتع به بعدما باتت مختلفة تماما عن تلك التي كانت تمارس في سنوات الستينات والسبعينات، حيث أصبح الملاكم يهتم أكثر بالتنقيط الذي يعتمد على عاملي السرعة والفعالية على حساب الفرجة · لكن رغم ذلك يمكن القول أن البعض من ملاكمينا خاصة القدامى منهم حافظوا على الركائز الأساسية للفن النبيل و الدليل على ذلك امتلاء القاعات عن أخرها في المواعيد الوطنية أو الدولية· - على ذكر الملاكمين الجزائريين· كيف يرى السيد مدني مستواهم ؟ * مادام الجمهور يواظب على حضور المنازلات، فإن الملاكمة الجزائرية تبقى قادرة على العودة إلى الواجهة · أكيد أن الجميع لاحظ أن المستوى قد تراجع في السنوات الأخيرة، في ظل غياب النتائج، وهو أمر يبعث على الاسف والحسرة أمام الإنجازات التي حققتها أسماء كبيرة أعطت الكثيرللقفاز الجزائري على غرار ولد مخلوفي الذي اعتبره أحد أفضل نجوم الحلبة العالمية وهوما أكده في موعد طوكيو، و قبله حسين خالفي الذي نجح في الإطاحة بالملاكم الفرنسي"سالادار"في البطولة العالمية ولوصيف حماني ثم حسين سلطاني وغيرهم من الابطال المميزين ، إذ كان الفن النبيل الجزائري مدرسة بأتم معنى الكلمة، حيث كانت الدول المجاورة على وجه الخصوص و اتحادات اللعبة في أوروبا تتسابق للاستفادة من تجربة وخبرة وفنيات ملاكمينا آنذاك، فكم من مدرب أنتقل للعمل خارج الوطن في هذا الإطار بعدما عانوا التهميش في بلدهم· - تتحدث عن تراجع المستوى والنتائج في الوقت الذي وصلت ثمانية عناصر إلى أولمبياد بيكين، وهو إنجاز يعد الاول في تاريخ الملاكمة الجزائرية؟ * حقيقة تعد حصيلة تاريخية ومفخرة للملاكمة الجزائرية، فمستوى العناصر الوطنية الحالية تبعث على التفاؤل والأمل في تجديد العهد مع الانتصارات الكبيرة ، لقد شاهدت لمنازلات التصفوية للألعاب الاولمبية التي نظمتها الجزائر في شهر جانفي الفارط ولا أخفي عليكم سعادتي بما رايت، لسببين الأول الحضور القياسي للجمهور الذي استمتع مثلي والثاني مردود الملاكمين الجزائريين الذين برزوا فوق الحلبة بشكل لافت· لكن السؤال المطروح هل سيحظون بالمتابعة والتشجيع أم يكون مصيرهم مصير الكثير من المواهب التي تنبأنا لا بمستقبل واعد قبل أن تختفي عن الانظار بسرعة نتيجة الإهمال · - هل تلقيت من الاتحادية الجزائرية للملاكمة عرضا لنقل خبرتك للأجيال القادمة؟ * منذ أن وضعت نقطة نهاية على مسيرتي الرياضية لم أتلق أي عرض في هذا الاتجاه، وهذا دليل قاطع على التهميش التي تمارسه الفيدرالية تجاه الملاكمين القدامى الذين تحدوا الصعاب من أجل تطوير هاته الرياضة· - وماذا تقترح في هذا الإطار؟ * روادتني عدة أفكار من شأنها أن تعيد الاعتبار للملاكمين القدامى و تساهم في إعطاء دفع جديد للفن النبيل الجزائري، فلما لا إنشاء لجنة تضم كل الأسماء التي أهدت الكثير من الألقاب يكون دورها نقل تجربتها لأجيال المستقبل عبر منحها فرصة دخول عالم التدريب والاستعانة بمعارفها خلال الدورات التكوينية· - ما رأيك في التقنية الجديدة للتحكيم "التوقيت السويسري"؟ * تقنية تستحق التشجيع والوقوف عندها لأنها تخدم التحكيم الجزائري الذي كان دوما مرجعية للحكام الدوليين هذه التقنية تسهل عمل الحكام الخمس الذين يديرون المنازلة إلى أخر لحظة من عمرها· - هل من إضافة؟ * هاته الدردشة أرجعتني إلى فترة المجد و الانتصارات، وجريدتكم مشكورة على ذلك· كما أريد أن أوجه للسلطات المعنية، باستغلال كفاءات الماضي·