طالب الباحث محمد بن مدور بترحيل سكان القصبة فورا وترميم ما يمكن ترميمه وإعادة بناء ما يتبقى منه، مضيفا أنه من العاجل جدا إنشاء لجنة تضم متخصصين من مختلف القطاعات المعنية بالمحروسة، لتطبيق الحلول الناجعة من أجل إنقاذ تراث جزائري أصيل،إضافة إلى تزويد القصبة بالشرطة المتخصصة في التراث. دق الباحث والمكلف بالاتصال بالديوان الوطني لتسيير واستغلال الممتلكات الثقافية محمد بن مدور، ناقوس الخطر بشدة خاصة بعد التصدعات التي طالت جميع مساكن القصبة جراء زلزال الفاتح من أوت الذي ضرب العاصمة. وفي هذا السياق، أكد بن مدور ل "المساء" أن ما يقارب 35 مسكنا من القصبة سقطت جراء الزلزال الأخير، ناهيك عن التصدعات التي مست بقية المساكن، متسائلا عن نجاعة المخطط الاستعجالي الذي طُبق على القصبة، والذي يدخل في خانة الترميم بتكلفة 95 مليار دينار. وفي هذا السياق، أكد بن مدور فشل عملية الترميم التي أطلقتها وزارة الثقافة بالتعاون مع مؤسسات أخرى، بدليل تعرّض الدويرات لهدم وتشققات، مشيرا إلى أنه لم يعتمد على تقنيات الترميم العالمية، بل استُعملت فيه مواد لا علاقة لها بالمواد الأصلية مثل الإسمنت، ليطالب بضرورة الاستعانة بالمرممين العالميين؛ باعتبار أن الجزائر لا تكوّن المرممين. وعاد بن مدور إلى حقائق تاريخية تتعلق بالسكنات في القصبة؛ حيث قال إن عددها سنة 1516 حين دخول العثمانيين أرض الجزائر، كان 4000، لينتقل إلى 15 ألفا بعد عمليات البناء التي عرفتها المنطقة تحت إشراف رضوان باشا المعروف بباشا قايد بركلي، وكذا حسين باشا في القرن 17. وأضاف بن مدور أنه وقع انفجار لمخزن للبارود في كل من قلعة الجزائر والأميرالية؛ الأمر الذي تَسبب في هدم بعض الدويرات، علاوة على الزلازل التي مست المنطقة في سنتي 1639 و1655، وبالأخص الزلزال القوي لسنة 1716، الذي هدّم نصف سكنات القصبة. أما عدد الدويرات عند دخول المستعمر الفرنسي إلى الجزائر فبلغ 8000 مسكن حسب الأرشيف، لتتحول بعد هدم الأسوار وفتح الأزقة والطرقات، إلى 1523 دارا، منها 982 طرازا تقليديا و541طرازا أوروبيا، هذه الأخيرة التي بنتها فرنسا بعد احتلالها للجزائر وتتشكل من عمارات تحمل كل منها شققا، ويظهر عليها الطراز الأوروبي من الخارج، والتقليدي من الداخل. وتوقف بن مدور عند هذه النقطة، مشيرا إلى أن الأرقام التي أعلن عنها بعض المسؤولين حول عدد دويرات القصبة والموافق ل 1816، خاطئ؛ إذ أحصوا عدد شقق العمارات، كل واحدة على حدة، وهذا لتضخيم ميزانية الترميم. وأكد المتحدث أن 71 عائلة التي تم ترحيلها من القصبة لا تنتمي جميعها إلى هذه المدينة، وأن أصحاب الدويرات التي سقطت لم يرحَّلوا مع 71 عائلة هذه، وأنهم يقيمون في المحلات، ليضيف أن الدُّور التي سقطت انهار داخلها، بينما بقيت الجدران الخارجية على حالها. وفي هذا الصدد، اعتبر المتحدث أن ما حدث في القصبة ليس ترميما بل وضع مكياج لا أكثر، وأن 26 دويرة فقط في حالة جيدة نتيجة اعتناء مالكيها بها. بالمقابل، أثنى بن مدور على دهاء مصممي دويرات القصبة بعد الهدم الذي نال الكثير منها في زلزال 1716، وهذا بشهادة المهندس الكبير كوبيزيي، حيث استعانوا بقطع من فروع الأشجار بطول 40سم يضعونها بالطول وأخرى فوقها بالعرض، تشد الأعمدة والجدران الكبيرة، فحينما يضرب الزلزال تتحرك معها، وهكذا لا تسقط الدار. وتحدّث بن مدور عن خصوصيات أخرى لدور القصبة، فقال إنها بُنيت على الجبل في شكل مدرجات، وتَدعّم بعضها البعض؛ لهذا ففي حال سقوط دار ستجر الدور المحيطة بها، كما أنها تضم أعمدة وجدرانا بطول 60 إلى 80سم، وتتشكل من مادة البيزي، وهي خليط بين الطين والقش، وكان البنّاءون يتركون فراغات في الأعمدة السميكة ويضعون فيها الجير الذي يتجمد مع مرور الزمن ويتحول إلى مادة صلبة، إضافة إلى بنائهم للقبو الذي تجلس فيه النساء، والنافورة وسط الدار. ونوّه بن مدور بثقافة سكان القصبة في الحفاظ على دويراتهم، فكان النساء يقمن بعملية "التقسيح"؛ أي أنهن يمسحن الأرضية بمنشفة ولا يستعملون المياه في عملية تنظيف أرضية البيت، كما كن يعتمدن على الجب في الغسيل، وهو بئر يستقطب مياه الأمطار والبئر للشرب. واعتبر المتحدث أن سكان القصبة حينما غادروها بعد الاستقلال لم يتركوا وثيقة تبيّن طريقة العيش في مثل هذه المنازل الفريدة منها، فكانت الطامة مع السكان الجدد الذين لم يحترموا خصوصيات هذه الدُّور وأفرطوا في حقها. وفي هذا السياق، أضاف بن مدور أن سكان القصبة غير الأصليين زادوا من حدة وضعية القصبة باستغلالهم لأثاث ثقيل في الطبقات العليا وكذا إفراطهم في استعمال المياه في دُور متشكلة من خليط من القش والطين، وهو ما يهدد سلامتها، إلى جانب بنائهم فوق الأسطح، مشيرا إلى أن سكان القصبة الأصليين غادروا المحروسة لأول مرة بعد قدوم العثمانيين، وثاني مرة بعد الاحتلال الفرنسي، والمرة الثالثة والأفجع بعد استقلال البلد. بالمقابل، وعودة إلى لغة الأرقام، أشار بن مدور إلى انهيار 300 دويرة في القصبة في الفترة الممتدة من 1970 إلى 1980. أما الفترة التي تمتد من 1970 إلى 2014، فشهدت انهيار 1060 دويرة، من بينها دويرات تم إغلاقها بعد ترحيل سكانها، ليضيف أن الكثير من السكان عادوا إلى منازلهم بعد ترحيلهم في عملية تقديم 11 ألف مسكن لصالح القصبة، وأن 26 مسكنا في القصبة في حالة جيدة، بيد أن 327 في حالة متدهورة جدا، و277 في حالة مقبولة. وواصل بن مدور في تقديم أرقام تخص دويرات القصبة، فقال إن 292 دارا تنتمي إلى الخواص و151 إلى الحَبوس (الوقف)، و187 تشكل فراغا بعد سقوطها؛ أي أن المجموع 630 مسكنا، مشيرا إلى أن هناك من أراد بيع مسكنه متصلا بوزارة الثقافة، إلا أن هناك الكثير من المنازل انهارت من الداخل، وأخرى لها أكثر من عقد ملكية. وفي هذا السياق، طالب المتحدث البلدية بتوقيف تقديم الإقامة لكل من هب ودب في القصبة، وهو ما تم فعلا؛ حيث إن بعض السكان المرحَّلين يهبون مساكنهم الجديدة لأولادهم ويعودون إلى القصبة، وآخرون يعودون إلى ديارهم المشمَّعة ويدخلون من باب جيرانهم، ونفس الشيء بالنسبة للذين يبيعون مساكنهم، إلا أن العقد لا يسجله الموثق عند السلطات المتخصصة، فنجد منزلا بأكثر من عقد. وتأسّف بن مدور لغياب المراقبة في هذا الشأن، حتى إن هناك من يبيع داره بالتجزئة، ومنهم من يبيع كل طابق على حدة، وأبعد من ذلك، فإن هناك من يبيع كل غرفة لشخص معيَّن. والأسوأ أن هناك من يبني في المنزه؛ أي في السطح، وهي البناية الأكثر هشاشة في الدويرة، والتي بُنيت بغرض قضاء مالك الدار لأوقات مريحة مع عائلته أو حتى إنها تُعتبر الفضاء الذي يحتضن المرأة الغاضبة من زوجها. وعاد بن مدور إلى طلبه الملح في أن تتوقف عملية ترميم منازل القصبة، مؤكدا أن ما يحدث بعيد عن الترميم الاحترافي، والذي يتم وفق ضوابط معيَّنة لا تتوفر فيما يخص القصبة، ليضيف أنه من الضروري جدا ترحيل سكان القصبة جميعهم، وكذا توقيف عمليات البيع للخواص؛ فمن يرد بيع داره فليبعها للدولة. وأشار بن مدور في لقائه الأخير مع وزيرة الثقافة السابقة السيدة خليدة تومي، إلى أنها أخبرته بتوقيع رئيس الحكومة الأسبق السيد أحمد أويحيى على قرار منح ألف مسكن لسكان القصبة. وأشارت تومي إلى أنها منحتها لجمعية ثقافية على علاقة بالموضوع، حتى توزّعها على من يستحقها من سكان القصبة. وأضاف بن مدور أن الأمور لم تجر كما شاءت الوزيرة السابقة؛ حيث أخذ أعضاء هذه الجمعية 500 مسكن، وقدّموا البقية لسكان القصبة، وهناك جمعيات أخذت مساكن الشيوخ والعجائز القاطنين لوحدهم والذين لا عائلة لهم، ونقلوهم إلى دار الشيخوخة! وأكد بن مدور على ضرورة تشكيل لجنة تتكون من ممثلين ينتمون إلى المؤسسات التالية: وزارات الثقافة والسياحة والمالية وكذا الولاية والبلدية والجماعات المحلية، مضيفا أنه لن يحق بعد ذلك للبلدية أن تهتم بمنح السكنات أو أن تشتريها، ولن يحق لوزارة الثقافة أن ترمّم ولا أن تشتري السكنات أيضا؛ لأن "حكاية" القصبة طالت كثيرا. وأشار المتحدث إلى أن الحكومة الجزائرية قامت بعدة عمليات ترميم فيما يخص القصبة، وكذا بوضع مخطط استعجالي، لكن الأمور بقيت حبرا على ورق. وأما الذي طُبق فكان تطبيقه سيئا، ليعيد طلبه بتفريغ القصبة أوّلا رغم الخسارة المالية التي ستطال الدولة، ومن ثم ترميم ما يمكن ترميمه من طرف متخصصين عالميين وهدم ما لا يمكن ترميمه وإعادة بنائه؛ باعتبار أننا نملك مخططات كل بناية في القصبة؛ فالترميم تكلفته أكبر من البناء. وتوقف المتحدث عند ميزانية الترميم التي حُددت ب 95 مليار دينار، خلصت، حسبه، في مرحلة الاستعجال فقط. أما عن الحطب المستعمَل في هذه العملية فقال بن مدور إن الجزائر اشترت حطبا كثيرا جدا ولكنه من النوع السيئ؛ أي ليس الحطب الأحمر، بل الحطب الأبيض من النوعية الثالثة. كما طالب المتحدث بضرورة توفير شرطة التراث في القصبة؛ هذه الأخيرة التي لا تتوفر على أجهزة الأمن كيفما كان شكلها وأصبحت ملاذا للصعاليك والخارجين عن القانون، مضيفا أن القصبة وإن لم تنقَذ في السريع العاجل ستنهار بقية منازلها، وتصبح مجرد فراغ واسع ربما للترفيه!