عندما عُرض فيلم "ظهور الإسلام" في مطالع الخمسينات من القرن الماضي لفت إليه أنظار أبناء الجزائر العاصمة، الذين استمتعوا بالتفرج عليه. وكان، على ما أتذكر اليوم، حدثا ثقافيا وسياسيا في القمة إن جاز التعبير؛ ذلك أن الشعب الجزائري كان في مخاض طويل عسير، أسفر عن انفجار ثورة أول نوفمبر 1954، وكان شعوره بالانتماء إلى الأمة العربية الإسلامية قويا في أعماق وجدانه. جاء ذلك الفيلم من الشرق العربي، ومن مصر على وجه التحديد. وعُرض في عدد من القاعات التي توجد في الأحياء التي لا يؤمها الفرنسيون ولا الغلاة منهم، وأعني بذلك سينما "النجمة" وسينما "أوديون" في قلب حي القصبة، وسينما "الجمال" وسينما "دنيا زاد"، وهما قاعتان متاخمتان للأحياء الأوربية. وتَفرّج أهل الجزائر العاصمة على أولئك الممثلين المصريين العباقرة، من أمثال سراج منير وأحمد مظهر وكوكا، وأنصتوا لذلك الإلقاء العربي الجميل الذي يربطهم بحضارتهم العريقة. كنا، ونحن صبية في ذلك الزمن، نرفع حناجرنا بنداء "الله أكبر" في قاعة العرض كلما جاء الكافر المشرك لكي يعذب المؤمنين القلائل الذين ازدهت بهم الأيام الأولى من البعثة النبوية الشريفة. ونُكبر أيما إكبار عمار بن ياسر، وبلال بن رباح وغيرهما من الذين كانوا من أوائل من آمنوا بدعوة الرسول الكريم؛ وما أكثر ما طفرت الدموع من عيوننا حين كنا نخرج من قاعة العرض، متمنين أن لو يعود بنا الزمن القهقرى لكي نناصر تلك العصبة من المؤمنين! وكنا، بطبيعة الحال، نزداد حمية بمرور الأيام؛ لأننا رأينا في المشركين صورة ناطقة عن الاستعمار الفرنسي، ثم لأننا رأينا في عذابنا نحن، صورة حية عن ضرورة حمل السلاح ضد ذلك الاستعمار البغيض. تفرجنا مرات عديدة على ذلك الفيلم، وأُعجبنا بذلك اللباس العربي الأنيق؛ أي بالعباءات والعمائم. أما مواقف الرجولة والفحولة في الفيلم فقد ظلت مسيطرة علينا، نحن الأطفال. نستعيدها فيما بيننا، بل، ونعيد تمثيل البعض من تلك المشاهد حتى إن الأوربيين الذين يسكنون حيّنا، أي "العين الباردة"، كانوا يقلقون منا ومن تصرفاتنا، وينتهروننا، وقد يطردوننا من عتبات ديارهم. هي مرحلة من تاريخنا، تحتاج إلى من يؤرّخ لها أدبيا واجتماعيا وسياسيا. أحسب أنني عايشت نفس المشاعر والأحاسيس التي كانت من نصيبي في تلك الأيام، حين تفرجت في الفترة الأخيرة على فيلم "ظهور الإسلام". وأحسب أيضا أنني استعدت صورا من الفتيان الجزائريين، الذين بدأوا أيامذاك يستعدّون لخوض المعركة الفاصلة بيننا وبين الاستعمار الفرنسي ورواسبه في هذه الديار. ولذلك، تمنيت، ومازلت أتمنى، أن أرى في هذه الجزائر من ينشئ لنا قاعة سينمائية تتخصص في عرض الأفلام القديمة، خاصة منها تلك التي أحدثت تغييرا في وجداننا وفي بنيتنا الفكرية، وأعني بذلك الأفلام العربية التي كانت تجيئ من المشرق، والأفلام الأمريكية التي كان الشبان الجزائريون يقلّدون أبطالها خلال تلك الفترة في ملبسهم وسلوكهم، وحتى في طريقة نطقهم باللغة الأمريكية. هذه الحالة الحضارية لا ينبغي أن تغيب عن أذهاننا ووجداننا اليوم. إنها جزء من تاريخنا، بل، هي جزء من ثورة نوفمبر بالذات. اليوم، ونحن نعيش مرحلة سياسية اجتماعية جديدة في هذه الجزائر، لا بد لنا أن نلتفت إلى دقائق الأمور التي عشناها في تلك الفترة من تاريخنا. وأنا، في هذا الشأن، أهيب بكل الذين عاشوا تلك الفترة، وبأهل الأدب والمتخصصين في علم الاجتماع أن يلتفتوا صوب ماضينا القريب، وينقّبوا عن كل ما له علاقة بهويّتنا، وأن يعرضوه على أبناء الأجيال الصاعدة. وبعد، أوليست الوطنية هي ذلك الشيء الذي يجعلنا نلتف في ساحته، ونجدد فيه قوانا لكي نسير قدما في هذه الدنيا؟