أكّد البروفيسور علي الكنز أنه على الأمة العربية إعادة النظر في وضعها وأن تسعى للاستفادة من تراثها الفكري واستغلال التنوع الذي تتميز به دون غيرها وأن تعيد قراءة ماضيها الحضاري وتكف عن تقليد الغرب. البروفيسور علي الكنز الذي حلّ ضيفا سهرة أول أمس على المكتبة الوطنية في إطار برنامجها الثقافي الرمضاني، فتح النقاش حول موضوع "ما بين الحداثة والتحديث"، داعيا في البداية إلى ضرورة التساؤل عما حدث للعرب منذ القرن 12 حيث أرسلت أوروبا التي كانت تتخبط في ظلمات العصور الوسطى، بعثاتها للعالم العربي للاطلاع على حضارته والعودة بنظرة الدهشة والإعجاب بثقافته وتفوقه الحضاري والعلمي، إلى القرن ال19 عندما بعث محمد علي وفدا من المثقفين من بينهم الطهطاوي إلى فرنسا لتعلم العلوم والتكنولوجية. الكنز أكّد على أهمية فهم سبب هذا الانقلاب وما حدث للعرب خلال هذه الفترة ببرودة وموضوعية بعيدا عن حماسة الانتماء، ليستعرض بعدها عالم الاجتماع أمام الحضور الذين غصت بهم القاعة بداية ظهور الحداثة مشيرا إلى أنّها انطلقت من إيطاليا خلال القرنين ال15 و16 على يد جماعة من الباحثين الذين بادروا إلى طرح العديد من التساؤلات العلمية، موضّحا في هذا المقام أن بداية الحداثة ارتبطت بالمجال العلمي والتقني ولم تكن لها علاقة بالدين، بالعكس فإن الكنيسة سعت إلى محاربة ذلك بكل الوسائل، لتتوسع بعدها على مجالات أخرى كالفلسفة وغيرها من مجالات الفكرة التي شرعت في طرح تساؤلات جديدة عما قبل المسيحية وتجاوزت إشكالية علاقة الإنسان بالطبيعة إلى علاقة الإنسان بالإنسان. لكن ذلك لم يكن ليحدث -يضيف علي الكنز- لولا حدوث ما عرف بالإصلاح الديني وظهور البروتستانتية وكسر سيطرة الكنيسة وظهور الدولة الوطنية، ومن ثمّة بروز الحدود بالشكل الذي نعرفه اليوم، كما ارتبط هذا بشكل رئيسي يضيف الكنز بالتطور الصناعي والثورة الاقتصادية التي غيّرت كل أنماط العمل وأنشأت المؤسسة الرأسمالية. ضيف المكتبة الوطنية أكّد أن الحداثة في العالم الغربي تعاني اليوم من أزمة عميقة بعد أن فقدت شرعيتها الاجتماعية والإنسانية خاصة بعد حادثة هيروشيما ونكازاكي التي شكلت أكبر كارثة للعلم، وما يعيشه العالم الغربي اليوم من هواجس بسبب الأبحاث البيوتكنولوجية وما تحدثه من تخريب للسلالات والأجناس الحية والجينات الوراثية... لذلك ما يكتب اليوم في الغرب -يقول باحث علم الاجتماع- في جلّه، عبارة عن نقد للحداثة والتحديث ودعوة للعودة إلى العقلانية، وهذا الفشل دفع الغرب للبحث عن عدو للاختباء وراءه وتجنيد العالم الغربي، وبعد سقوط القطب الشيوعي لم يجد أمامه إلاّ العالم الإسلامي الذي جعلت منه عدوا داخليا وخارجيا. وفي عودته للعالم العربي، أشار المحاضر إلى أنّ رحلة الطهطاوي وفريقه ركّزت على الجانب التقني والتكنولوجي للحضارة الغربية، وسعى إلى إضافة ذلك للسلفية القديمة من أجل إنتاج الحداثة، مضيفا أن علاقة العالم العربي بالغرب علاقة تقليد، ومازال النقد في العالم العربي عبارة عن بكائيات، كما لا يوجد نقد حقيقي للحداثة من طرف المفكرين العرب، وما يقدم هو نقد غربي لفكر غربي، "نحتاج إلى نقد أنفسنا -يقول علي الكنز- إلى نقد ذاتي يكسبنا شرعية نقد الآخرين، ما زلنا ننتظر أن يأتينا الحل من الخارج ليس هناك حلول ستأتي"، يضيف الباحث، "علينا أن نستعيد تراثنا الفكري". وفي هذا المقام، أكّد المتحدّث أنّ أول من دعا على اللائكية وفصل الدين عن السياسية والعلم عن الدين كان ابن رشد، فاللائكية ليست فكرا غربيا وإنّما عربيا. وفي الأخير، أشار باحث علم الاجتماع إلى أنّ العالم العربي يملك خاصية تفتقر إليها كل الأمم وهي الثراء الديني وقدرتها على التعايش مع العديد من الطوائف والديانات والتيارات التي تشكل ثراء فكريا كبيرا لابد من الاستفادة منه. يذكر أن البروفيسور علي الكنز يحمل دكتوراه دولة في علم الاجتماع من جامعة باريس الثامنة وهو أستاذ علم الاجتماع بجامعة نانت، وأستاذ زائر بالعديد من دول العالم، كما أنه مستشار علمي في معهد العلوم المتقدمة شمال -جنوب، وعضو مؤسس للجمعية العربية لعلم الاجتماع ببيروت، له العديد من الإصدارات والبحوث والدراسات من بينها "الاقتصاد في الجزائر"، "على امتداد الأزمة: 5 دراسات عن الجزائر والعالم العربي"، "وضعية علم الاجتماع في العالم العربي"، "الانتلجينسيا في العالم العربي"،"الدين والمجتمع "، "الصدفة والتاريخ"،"الجزائر والعصرنة" وكذا "إفريقيا الآن" وغيرها.