ابتسمت قسنطينة حينما بلغ مسامعها أنها سترمَّم بمناسبة تظاهرة عاصمة الثقافة العربية، ولكنها لم تعتقد أنها ستجد نفسها وسط دوامة كبيرة من الإجراءات الإدارية العسيرة وتسوية قانونية بطيئة لمكاتب الدراسات، وأمور أخرى لم تجد لها تفسيرا، أو أنها تخشى أن تكشف عنها. ونحن على مشارف اختتام هذه التظاهرة لم يسلم أي معلم مرمم، وتوقفت أغلب المشاريع. ويرى بعض المهندسين المعماريين المحليين أن ما يحدث في مدينتهم يشكل خطرا على سلامة بناياتها العتيقة، علاوة على قلق قاطنيها، خاصة التجار منهم من بطء العملية التي أثرت عليهم. ووجد المصلون أنفسهم بالخصوص خلال الشهر الفضيل، يقيمون صلاة التراويح في الساحات بعد إغلاق 19 مسجدا وزاوية بوسط المدينة؛ فهل ستحقق عملية الترميم مرامها ولو في وقت بعيد؟.. "المساء" اقتربت من بعض المختصين الذين هم على علاقة بعملية الترميم ورصدت آراءهم. نهى كوري: لم نسلّم أي معلم مرمَّم كشفت السيدة نهى كوري، ممثلة الديوان الوطني لتسيير واستغلال الممتلكات الثقافية المحمية، ل "المساء"، عن عدم تسليم أي معلم خضع للترميم إلى غاية اللحظة؛ بسبب العديد من العراقيل التي واجهت فرق العمل، مضيفة أنه تم برمجة 74 مشروعا خلال تظاهرة "قسنطينة عاصمة الثقافة العربية" قابلة للترميم واختيار 32 مكتب دراسات، من بينها عشرة مكاتب جزائرية محضة ممن كسبت التجربة في هذا الميدان، و13 مكتبا بشراكة جزائرية أجنبية (فرنسي، إسباني، إيطالي وتونسي)، إضافة إلى تنصيب 34 ورشة في المناطق التي تسمح بذلك. وعدّدت نهى الصعوبات التي تواجه فرق العمل، والبداية بالعراقيل الإدارية؛ حيث تم وبموافقة الوزير الأول، اعتماد صيغة التراضي عوض المناقصة؛ أي أن عملية الترميم تنطلق، ثم تسوَّى الوضعية القانونية للفاعلين. وأضافت أن مشكل التسوية القانونية لم يحل إلا في ديسمبر 2015؛ مما نتج عنه تأخر كبير حتى في الدراسات، حيث إن بعض المكاتب لم تقدم الدراسة لعدم امتلاكها العقد، وبالتالي لم تتلق حقوقها المادية، لتشير إلى أن مشكل التسوية القانونية كان أكثر صعوبة تجاه المكاتب الأجنبية، مما تسبب في توقف العديد من المشاريع، علاوة على اللبس الذي يحيط القانون الخاص بالترميم، وكل هذه الأمور عرقلت عملية الترميم لأكثر من سنة كاملة. وأشارت المتحدثة إلى أن عدم تسوية الوضعية القانونية للمكاتب نتيجة الاعتماد على صيغة التراضي، أخّر الترميم؛ لأن بداية هذه العملية تنطلق من مكتب الدراسات، الذي يوجه القائمين على الورشات، إلا أن الأمور بدأت تدخل في سياقها العادي والقانوني، بداية من نهاية السنة الماضية. كما تطرقت نهى للمشاكل الأخرى التي تعرقل عملية الترميم، وأهمها عدم الوصول إلى تفاهم مع الخواص من أصحاب البنايات التي ستخضع للترميم، حيث كان من اللازم الوصول إلى اتفاق مع مالكي السكنات أو المحلات الحرفية والتجارية الخواص، مشيرة إلى أهمية الوصول إلى اتفاق حول إعادة إسكان القاطنين في الأحياء المرممة، وتعويض مالكي المحلات، وهذه الأمور - حسب المتحدثة - لم تجد فرجا إلى حد اللحظة. أما عن المباني والمعالم التراثية المهددة بالزوال، فأوضحت نهى وجود معالم كان لا بد من تأمينها؛ نظرا لحالتها المزرية والتي تشكل خطرا حتى على المشرفين على ترميمها، مثل زاوية بوعبد الله شريف، التي تعاني من تشققات رهيبة. كما تطرقت المتحدثة لطبيعة مدينة قسنطينة الواقعة على صخر؛ مما يسبب عراقيل أكثر بالنسبة للترميم، حتى إن مكتبا للدراسات أُجبر على إنشاء تيليفيريك في السويقة السفلى لنقل الردوم من منطقة إلى أخرى. كما أكدت المتحدثة صعوبة مهمة الترميم، حيث إن بعض المباني تهدمت نهائيا وردمت. وطمأنت المتحدثة المتعاملين الذين لم تسوَّ وضعيتهم القانونية بعد، بتدارك الوضع، وبالتالي دفع مستحقاتهم، لتؤكد أن الديوان الوطني لتسيير واستغلال الممتلكات الثقافية المحمية، يرافق صاحب مشروع الترميم، المتمثل في ولاية قسنطينة ونائب المشروع مديرية الثقافة بقسنطينة، ويقدم لهما الاستشارة التقنية، ويعاين الورشات التي تعمل في هذا المجال. كما قدّمت نهى بعض الأرقام المتعلقة بعملية ترميم معالم قسنطينة، فقالت إن الدراسات حول هذه العملية بلغت نسبة 60 بالمائة. أما على مستوى الورشات ال 34 فقد تم تجاوز المرحلة الأولى منها، في حين بلغ عدد المكاتب القسنطينية 15 من بين 23 مكتبا مشاركا في هذه العملية، وهناك بعض المعالم التي تجاوزت نسبة ترميمها 40 بالمائة. أما عن المساجد المرممة فقالت نهى إن 8 مساجد من ضمن 12 التي تقع في وسط المدينة، تخضع للترميم، مضيفة أنها لا تعتقد بتسليم أي منها قبل رمضان المقبل، لتشير إلى أنه تم اختيار 18 من الأصناف التي تخضع للترميم، ومن بينها: المساجد، الزوايا، الحمّامات، الفنادق الشعبية، الساحات، السويقة السفلى، القصبة، العمارات، المساكن والدروب. كما سيتم ترميم ثلاثة مواقع خارج المدينة، وهي: تيديس، مقبرة سيجي محمد الغراب وفضاء ماسينيسا، حيث يتم تسييجها، علاوة على الاهتمام مستقبلا بمساجد السويقة وغيرها من المعالم. نور الدين خلفي: قسنطينة تهدَّم بدل أن ترمَّم! دق المهندس المعماري نور الدين خلفي وأول رئيس لعمادة المهندسين المعماريين بقسنطينة، ناقوس الخطر؛ حيث أكد تعرّض قسنطينة لعملية هدم، وهي التي تُعد من بين أقدم المدن في العالم (أكثر من ثلاثة آلاف سنة). كما اعتبر أن إطلاق عدة عمليات للترميم دفعة واحدة، خطأ كبير، خاصة أن الأمور تجري بدون تحضير مسبق، ليضيف أن الأمر معقّد أكثر بالنسبة للخواص. وأضاف المتحدث: "كل شيء تم إغلاقه، ولا يمكن تخصيص أموال باهظة لترميم معالم خاصة بدون رضا أصحابها. كما لا أتفهم ترميم حمّام خاص؛ إذ لا يمكن إغلاق الفضاءات الخاصة من دون تحديد تاريخ لإعادة فتحها!". وتحسّر على كل معلم تعرّض للتعرية، ثم ترك جانبا لعدم تسوية الوضعية القانونية للمشرفين على عملية الترميم، ليقول: "من الخطير جدا تعرية مبنى قديم، ومن ثم تركه عرضة للأمطار والرطوبة، وأقدم مثالا عن مسجد الشريف الذي تعرّض للهدم. أما زاوية سيدي عبد الرحمن فقد تمت تعرية سقفها وتركها على هذه الحال"، ليضيف أن مكتب دراسات نزع شرفة من بناية، ثم توقف عن الترميم؛ لأنه لم تسوَّ وضعيته القانونية. كما عاد للحديث عن صفقة التراضي التي تمت بين الجزائر ومكاتب الدراسات الجزائرية والأجنبية، متأسفا عن العمل بدون وصل طلبية يحدد مهام المكتب وكذا فترة إنجاز العمل، وهو ما لم يتم فيما يخص ترميم قسنطينة، ليؤكد أن أعمال الترميم التي توقفت لن تُستأنف مجددا، مشيرا إلى أنه رفقة أعضاء جمعيته من المهندسين المعماريين بقسنطينة، راسلوا السلطات المختصة، حتى إن خمسة من المحامين تأسسوا بالمجان للدفاع عن المدينة، لكن "لا حياة لمن تنادي!". وكشف المتحدث عن عدة أمور، معلنا تحمّل مسؤوليته الكاملة في ذلك، فقال إنه تم في بعض الأحياء القديمة، نزع شبكة الأمطار؛ مما يشكل خطرا كبيرا على البنايات القديمة التي تحتوي على طابق تحت الأرض، وبالتالي في حال تساقط الأمطار ستتجه إلى جوف البنايات؛ مما سيؤدي إلى انهيارها، مؤكدا أن قسنطينة ستعرف انهيار عدة بنايات في حال تساقط غزير للأمطار حتى إن أحد أسوار ثانوية "رضا حوحو" تحرَّك من مكانه. وفي هذا السياق، أكد خلفي أن إعادة واجهات البنايات التي تعود إلى فترة الاستعمار، لم تتم بشكل جدي؛ حيث لم يتم إصلاح التشققات، بل تم دهنها وإخفاء عيوبها. بالمقابل، تحسّر لعدم استشارة المهندسين المعماريين المحليين في هذه العملية، معتبرا أنه رفض الشراكة مع مكتب إسباني؛ لأن هذا الأخير رفض طلبه في رئاسة الفريق العامل في ترميم معالم قسنطينة، ليضيف أن المهندس المعماري الأجنبي يلزمه الحصول على اعتماد من بلده ومن الجزائر؛ كي يعمل في بلدنا، إلا أن كل المهندسين المعماريين الأجانب الذين يعملون في مجال ترميم قسنطينة غير معتمَدين لا في بلدهم ولا في الجزائر. كما توقف خلفي عند هدم سلالم قسنطينة المصنوعة من الحجر الأزرق الموجود نظيره في روما العتيقة، وتعويضه بحجر هش، ليضيف أن شركة "أكيدوس" الإسبانية المعروفة تابعت العملية لكنها لم تتدخل، ليؤكد فشل تظاهرة قسنطينة حتى إنه لم يتم إلا تسليم قاعة "أحمد باي"، التي قال إنها شُيّدت في أرضية غير مناسبة؛ حيث تقع بين المطار والطريق السريع؛ أي في طريق به ارتفاقات. وأعاب خلفي عدم ترميم أي قاعة للسينما؛ فكلها مغلقة ومعرَّضة للانهيار، كما انتقل إلى محاولة تحويل عدة منشآت إلى متاحف، مثل مبنى الولاية القديم والمدرسة وسوق الفلاح التي حُطمت سلالمها وتُركت على هذه الحال. كما أضاف أن ترميم الفنادق وعلى رأسها "سيرتا"، يتم بدون رخصة هدم وتقرير المراقبة التقنية، ليختتم حديثه بأهمية مراقبة الدولة لمثل هذه المشاريع الكبيرة، ومعاقبة من يخالف القانون، وأن عمليات الترميم التي توقفت لن تعود، خاصة أننا نعيش في زمن صعب. لمياء جرادي: لو تم الاستعانة بالمعماريين القسنطينيين لما وصلنا إلى هذا الوصال قالت لمياء جرادي رئيسة عمادة المهندسين المعماريين القسنطينيين ل "المساء"، إنه لو تم الاستعانة بالمهندسين المعماريين المحليين حينما اختيرت قسنطينة عاصمة للثقافة العربية سنة 2013، لما تعرضت عملية الترميم لكل هذه العراقيل، فمدينة الجسور المعلقة لوحدها تضم أكثر من أربعة آلاف مكتب دراسات. أما عملية الترميم، في حد ذاتها، فقالت إنها تشبه العملية الجراحية في تعقّدها ودقتها، وهي على خلاف إعادة تهيئة واجهات البنايات القديمة، التي تمت بدون مشكل يُذكر. ونوّهت المتحدثة بالتغيرات الحاصلة في واجهة الأهرامات وغيرها التي غيرت نوعا ما من واجهة المدينة، إلا أنه لم يتم تسليم أي مبنى مرمم إلى حد اللحظة. كما تطرقت لأهمية ترميم كل المعالم الأثرية بدون ربطها بمناسبة معيّنة، "فلو رُممت قسنطينة منذ زمن لوجدت معالمها في أحسن أبهة بمناسبة هذه التظاهرة"، تضيف المتحدثة. وتطرقت لمياء لاستياء المواطنين القسنطينيين من الأشغال الجارية بفعل الترميم خاصة التجار منهم، لتضيف: "لا يمكن إغلاق محل لمدة طويلة بدون تعويض صاحبه". كما "لا يمكن البدء في عملية ترميم مسكن يقطن به صاحبه في وقت مبكر من اليوم".