تسكن في أركان المقاهي القديمة المنتشرة في العالم الإسلامي، ذكريات التراث والتاريخ المكلل بالأحداث والسير والأفكار والثورات، وتحوّلت من مجرد مكان لارتشاف فناجين القهوة إلى فضاءات اجتماعية وثقافية رائدة، جلبت عامة الشعب وصفوة النخبة، حيث تلاقحت الرؤى والمشاعر وتواصلت مسيرة الأيام. وعن زخم هذا التراث العريق بالجزائر وعبر العالم، نظّم فضاء مكتبة "شايب دزاير" أول أمس، ندوة شارك فيها عدّة ضيوف، يتقدمهم الباحث الكبير الإعلامي حسين امزالي. نشّط اللقاء السيد سيد علي صخري الذي استهل حديثه بتقديم نبذة عن تاريخ مشروب القهوة، بالتالي المقاهي، مبرزا الدور الكبير للعالم الإسلامي في انتشار هذه الثقافة فيما بعد عبر العالم، خاصة بأوروبا. وأضاف أن القهوة تتميز عن غيرها من المشروبات بتاريخها الثقافي والاجتماعي في العالم العربي والإسلامي، وربما كانت طبيعة المشروب والهيئة التي كان يشرب فيها وراء هذا الجدل الواسع، كما أنّ ظهور القهوة ومعها المقاهي تسبّب في انقسام الفقهاء فيما يخص شأنها وهل هي حلال؟، بل وبلغ الأمر إلى إصدار فتوى بتحريمها حتى حين إبطال هذه الفتوى من قبل أحد السلاطين، وأدى ظهور القهوة إلى حراك اجتماعي واستوطن في المقاهي، وصاحب ذلك استقطابها لمظاهر جديدة منها الغناء والمسرح الشعبي والحكواتي. لكل مقهى رواده وميزته أشار المتدخل إلى أن معظم الروايات تربط بين القهوة والطرق الصوفية، حتى أصبحت علاقتهم بالقهوة وطيدة، وما ساهم أيضا في رواج القهوة هو أن العلماء والأدباء وأهل الفكر والفن أصبحوا من عشّاقها ومن المتردّدين على المقاهي، فانتشرت أكثر فأكثر، وأصبحت بيوت القهوة تجذب المزيد من الروّاد لما فيها من أنس وموسيقى وحكاية وحديث. صال السيد صخري وجال في أعرق مقاهي الجزائر والقاهرة ودمشق واسطنبول وباريس وبيروت وغيرها، علما أن لكل مقهى رواده وميزته، كما هو شأن المقاهي الباريسية التي منها مقهى "بروكوب" المعروف بعلماء المعاجم (السكلوبيديين) ومقهى "فلور" الخاص بالوجوديين ومقهى "سيرانو" للوجوديين وهكذا. وأكد المتحدث أن العالم العربي والإسلامي كان مهد القهوة وكذلك المقاهي منها، تلك المفتوحة على الهواء الطلق وفي الساحات، والتي أخذتها عنه فيما بعد أوروبا ابتداء من القرن ال15 م، وتمكّن السفير العثماني بباريس من إبهار لويس 14 بالقهوة، فأصبح مدمنا عليها، وبعدها انتشر صيتها أكثر مع فولتير وغيره، وانتشرت أيضا المقاهي في الساحات الباريسية، والتي كانت تقليدا عربيا، وبقيت هذه المقاهي القديمة قائمة وأصبحت تراثا وطنيا لا يمسّ، على عكس بعض مقاهينا التي اندثرت وغاب معها تراثنا الثقافي والاجتماعي، وهنا توقّف صخري عند بعض مقاهي العاصمة التي تلاشت، داعيا إلى ضرورة إحيائها لأنّها جزء من حركة المجتمع الحي، كما كانت وستظلّ سدا منيعا أمام مظاهر التزمت والانحراف الفكري والإرهاب. المقاهي مواطن للنضال والإبداع عاد ضيف اللقاء السيد حسين امزالي بالجمهور إلى سنوات عزّ المقاهي الجزائرية، التي استوطن فيها النضال والفن والإبداع، وكانت فضاء مشتركا بين الجزائريين، خاصة منذ الحرب العالمية الأولى، علما أنّ القصبة كان بها الكثير من المقاهي المعروفة، وأغلبها اختفى اليوم من الوجود. ذكر المتحدث أن الجزائريين اقتيدوا رغما عنهم للمشاركة في الحرب العالمية الأولى، وكمكافأة لبعضهم منحت لهم تراخيص لفتح مقاهي بالمدن، شرط أن تكون أمام مراكز الأمن، وأن يرسلوا تقاريرهم عمن يقرأ الصحف، ومن هنا يتبيّن دور المقاهي وأهميتها، كما استعرض بعض مقاهي القصبة، منها قهوة الفنارجية (الإنارة العمومية)، ومالاكوف والتلمساني، التي تردّد عليها المناضلون، منهم علي لابوانت، وكانت بها السياسة تشتغل على مدار ال24 ساعة، وكذا قهوة قوراري الشعبية، وغيرها. كما تحدّث امزالي عن مشروب قهوة الجزوة التي كان آخر مقهى يقدّمه بمنطقة الأخضرية، وتطرّق أيضا إلى ظروف البؤس للقهاوجية إبان الاستعمار، ولكن رغم ذلك، ظلّ المقهى أوّل من يقابل زائر مدينة الجزائر (الغريب) ليدخلها وكانت بمثابة البيت الكبير في المجتمع، وتحدّث الضيف أيضا عن جولاته كصحفي عبر بعض العواصم، منها باريس وبيروت والقاهرة، وذكر بعض مقاهيها منها مقهى الفيشاوي المعروف. النقاش مع الحضور كان ثريا، تم التطرّق فيه إلى مقاهي الجالية الجزائرية بالمهجر، وبعضهم ذكر مقهى معروف بمنطقة عين الحمام، تردّد عليه المناضلون منذ الثلاثينات، منهم مصالي الحاج وآيت أحمد، رحمهما الله. وذكرت سيدة من المنطقة علاقة القبائل المتينة بالقهوة وحرمانهم منها زمن الفقر والحرب، وكيف كانت النسوة تستغل مستخلصها من شدّة الفقر (التلوة) وبعدها إبان تمرّد الولايات في صائفة 62، إذ كانت النساء هناك تهتف "سبع سنين بركات وأعطونا القهوة خير". من الحضور من وقف عند قهوة المغاربة بحلب السورية التي أدارتها سيدة حكواتية جزائرية، وهكذا تمّ سرد العديد من المقاهي العريقة عندنا، منها مقهى القليعة، واتّفق الجميع على ضرورة إعادة إحيائها.