وسط باحة الزاوية قبالة الجامع والمكتبة وبيت الطلبة برزت سحابة من نور في فصل خريفي ممطر، واعتلت الشمس في الأفق فانزلقت البرودة من أثر الدفء، قطرات ندى على أغصان الأزهار والأعشاب ولوائح النخيل، ودوت زقزقة العصافير في تناغم مرة وفي تقاطع مرات في شكل تسبيحات تسترجع من خلالها قدسية المكان، خرجنا من المكتبة لنلتقي بالشيخ عبد القادر شيخ الزاوية العثمانية وكان اللقاء... المكان يبعث بالراحة والتأمل، ومضات عدسات التصوير في التقاط صور تذكارية جماعية وفردية مع جملة من الزائرين للزاوية خصوصا من منطقة الجلفة، حيث تربطهم بالزاوية روابط روحية قديمة توارثها الأحفاد عن الأجداد. منارة المسجد تفرض على الزائر أن ينظر إليها ويتأملها في دهشة، استقبلنا الشيخ عبد القادر أمام مدخل البناية المفضية إلى قاعة الاستقبال في الدور الثاني، فضلنا الجلوس والحديث معه في ساحة الزاوية، رحب بنا ترحيبا يحفظه الكرماء وطلب منا عدم التسرع والبحث عن مهل في المخطوطات وأنه مستعد لتوجيهنا وإرشادنا والإجابة على كل ما يتبادر في أذهاننا من أسئلة، لم تكن معي أسئلة محددة لأن مهمتي خاصة بالمخطوطات والكشف عن عددها وأنواعها وتاريخها، ولهذا تركت الأسئلة تجري بتلقائية خصوصا ونحن على أبواب الاحتفال بالذكرى الرابعة والخمسين من اندلاع ثورة نوفمبر المباركة، حدثنا فضيلة الشيخ عن دور الزاوية في الثورة والمقاومة خصوصا وأننا خلال أيام قليلة نحتفل باندلاع ثورة نوفمبر المباركة، ابتسم الشيخ واعتدل في جلسته وكأنه يستعيد ماضيا ثقيلا أو يسحبه من سحيق الزمن، وتبعثرت نظرته على المكان وكأنه يتفحص أطياف الذين عبروا من هنا، وبدأ حديث المقاومة من عين التوتة عام 1916 قائلا: "سجن شيخ الزاوية عمر وقتل الحاكم وقامت المقاومة، الحديث عن الثورة لا يمكن لملمته والإتيان به في جملة من الكلمات لأن الوثائق الخاصة بالزاوية أعدمناها إبان ثورة نوفمبر 1954 بسبب السلطات الفرنسية، بالنسبة لوثائق 1871 أعدمناها حتى قوائم الطلبة تمت إزالتها ولتكن البداية مع سي الحواس الذي كان من طلبة الزاوية، وإبان الثورة كان مع جملة من المناضلين بالمنطقة وعقد اجتماعا ونظم المناضلين ووضع قوائم للعروش، وتم العمل بها لمدة ثلاثة أيام كاملة، حيث تم تقييد الاسماء، منهم القياد والبشاغات ومنهم البشاغا الذباح، جاء الحواس الى الزاوية جلس في مكان ثم انتقل الى مكان آخر ونزع حذاءه وكان حاملا رشاشا وقنابل يدوية، ثم قال منذ قيام الثورة واندلاعها لم أنزع حذائي، وسلاحي وأنا الان مطمئن "... وأضاف: "أما من حيث قوات الاحتلال المتواجدة بالمنطقة فكان عددها يربو عن ألفي عسكري، إلا أن الله حفظ الأمر وتم تنظيم الثورة في سرية كاملة، حيث نظمت الخلايا وأسندت المسؤولية لأهلها، حيث تم تنظيم الاعراش والمواطنين". يتوقف الشيخ عبد القادر قليلا وهو يسترجع ذكراه مع الثورة خصوصا وأن هذه الذاكرة استخرجها من جرح غائر ونبشها فأثارت نزيفا داخليا يتعلق بأخيه شيخ الزاوية آنذاك، الشيخ عبد الرحمان عثماني، يسترسل الشيخ عبد القادر بعد وصله لخيوط الذاكرة وبجملة تدفقية يقول: "الشيخ عبد الرحمان ألقي عليه القبض، أنا ذهبت الى المغرب، الزاوية كانت مركزا لجيش التحرير وكانت مجلس قضاء، لأن الثورة منعت أن يتقاضى المواطنون الى القضاء الفرنسي، ولا حكم إلا المحاكم الجزائرية، كانت الزاوية مجلسا قضائيا، انكشفت القضية للسلطات الاستعمارية والدور الذي تقوم به الزاوية، انكشف الامر حينما لقي القاضي الفرنسي احدهم وكان جالسا يتشمس فسأله عن سبب عدم قدوم الناس للمقاضاة كسالف عهدهم، فقال له كلهم يذهبون الى الزاوية، هذا الاخير أبلغ "الكوماندا" الفرنسي بالامر فاستدعى شيخ الزاوية عبد الرحمان عثماني، وكان أخي عبد الرحمان رجلا شجاعا صريحا واضحا وكنت أعلم أنه سيقول الحقيقة ولا تأخذه في الله لومة لائم، وكان الضابط الفرنسي الذي استدعاه يعرف في المنطقة باسم "الباح" لأنه كان يخرج الصوت ببحة، وكان من عادته أنه يستقبل الشيخ باحترام ويمنحه رخص التموين، وقلت للشيخ أذهب معك، فرفض لكني ذهبت معه، في هذه المرة "الباح" لم يستقبل الشيخ كعادته، وكان ذلك في سنة 1957، جلس "الباح" الى مكتبه ثم قال للشيخ أنتم تصدرون العدالة في الزاوية؟!، فقلت له نحن نقيم الصلح بين الناس، قال ما معنى الصلح؟ قلت: هذا شيء قديم عندما يتخاصم الناس يأتون الى الزاوية، وقلت له: حتى الدولة الفرنسية كانت ترسلهم الى الزاوية للصلح". فقال "الباح" "كنت فاهما أنكم تديرون الصلح، وأن الدولة الفرنسية هي التي ترسل لكم الناس"، "لم أترك الشيخ يتكلم" يضيف الشيخ عبد القادر، ولم يحجزنا المبحاح، بل تركنا لنذهب، وعندما عدنا الى الزاوية طلبت من الشيخ عبد الرحمان أن يخرج من المنطقة وذلك بسبب انكشاف القضية وكنت أدرك أن الاستعمار لا يتركه وشأنه، فقال لي: "لن أخرج"، مما جعلني أخرج أنا من المنطقة وأغادرها الى فرنسا ومنها الى المغرب، إلا أن سلطة الاحتلال لم تدع الشيخ وشأنه فطلبت منه أن يرسل إلي من يعيدني الى الوطن، فأرسل لي من لحقني الى اسبانيا وكنت في طريقي الى المغرب لكنني لم أعد، وعذب الشيخ عبد الرحمان العذاب الشديد من قبل زبانية الاستعمار الفرنسي فأسقطوا عينه واقتلعوها ونزعوا أذنه، وبقي مسجونا الى أن جاء "بلحداد" وقال للجنرال أنتم تسجنون شيخا، فأطلق سراحه في أواخر 1959 أو 1960، خرج من السجن وبقي في قسنطينة، وبقيت الزاوية مركزا للمؤونة والسلاح والتجنيد ومركزا للجيش لغاية الاستقلال". أما عن الزاوية وتأسيسها فيقول الشيخ عبد القادر عثماني "الزاوية أسسها الشيخ علي بن عمر سنة 1780، أسست للتعليم والتربية والاعمال الخيرية، وقتل مؤسسها سيدي علي بن عمر وهو يقوم بمهمة صلح بين عرشين متناحرين وقد ذهب إليهما ليلا ليصلح بينهما فلم يعرفوه فقتل رحمة الله عليه". وحدثنا الشيخ عبد القادر عثماني عن دور الزاوية في المقاومات الشعبية منذ المقاومة الأولى بقيادة الامير عبد القادر، وكان مركز بن عزوز مركزا لجيش الامير عبد القادر ومصطفى بن عزوز، وكان له ابن يدعى المكي كان مفتيا وكان رئيس دار الحديث، وله أكثر من 60 تأليفا، وذهب مع الحسن بن عزوز خليفة الامير بعد القادر وسجن في "كيان". للتذكير فإن الشيخ عبد القادر عثماني شيخ زاوية طولقة وعضو المجلس الاسلامي الاعلى هو الذي أفتى بعدم شرعية صندوق الزكاة. لأن الزكاة تعطى للفقراء والمساكين كما فصلها القرآن الكريم، والشيخ عبد القادر عثماني نبّه لقضية مهمة وهي عملية الارضاع بين النساء النوافس في المستشفيات، وطلب أن توضع لافتات تنبه الى خطورة مثل هذه العملية وتوعية الاطباء والممرضات والنوافس من النساء. الشيخ عبد القادر عثماني من مواليد طولقة سنة 1929م (1348ه) وهو ابن الشيخ الحاج الذي كان يدير الزاوية ويلقي دروسا في تفسير القرآن الكريم. تلقى الشيخ عبد القادر دراسته كلها في الزاوية من حفظ للقرآن الكريم وعلوم الفقه والنحو والتفسير والفرائض والمنطق والبيان عن شيوخ الزاوية وعلمائها. وللشيخ عبد القادر مؤلفات مدرسية، محاضرات دينية، فتاوى شرعية، خطب جمعة، له تفسير في القرآن الكريم، كان يلقيه كدروس قبل خطبة الجمعة منذ سنة 1981 وقد ختمه يوم الجمعة 19 صفر 1425 ه الموافق ل 09 أفريل 2004، وهو يؤدي الآن دوره العلمي والتربوي بالزاوية وبالمجلس الإسلامي الأعلى.