تحيي الجزائر، اليوم، الذكرى ال56 لعيدي الاستقلال والشباب، الذي يترجم أجمل أحداث تاريخها الحافل بالتضحيات والبطولات من أجل نيل الحرية، تاريخ استرجعت فيه سيادتها الوطنية المسلوبة وشكل انطلاقة قوية لمرحلة التشييد لبناء دولة عصرية انطلقت من الصفر باقتصاد منهار وبطالة وأمية ضاربة أطنابها في قرى ومداشر مخربة، لتتمكن بعد سنوات من تجسيد إنجازات يشهد لها العدو والصديق بفضل الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الشاملة التي توجت بتحول نوعي عميق لا ينكره إلا جاحد. تمر اليوم 56 سنة على استرجاع الشعب الجزائري لاستقلاله في الخامس من جويلية 1962 بعد 132 سنة من الاستعمار والقهر، خلف ملايين الشهداء واليتامى والأرامل، عمد من خلالها المستعمر إلى شتى أنواع القتل والتنكيل بالإنسان والأرض والهوية، غير أن الشعب المتمسك بحقه وبأصالته وقيمه الوطنية، لم يذعن ولم يرضخ، وظل يقاوم ويدفع القوافل تلو القوافل من الشهداء، إلى أن أعلنها في نوفمبر 1954 ثورة عارمة شاملة رمت بالمحتل إلى ما وراء البحر وأعادت للجزائري كرامته وشخصيته ودولته المسلوبة. إن إحياء هذا اليوم العزيز على كل الجزائريين، يبقى يشكل مناسبة متجددة لاستحضار مسيرة البناء الشاقة التي بدأتها الجزائر غداة الاستقلال، حين استلمت الدولة الفتية في 5 جويلية 1962 بلدا باقتصاد منهار ومؤسسات محروقة ومخربة وجيوشا من العاطلين عن العمل والأيتام والنازحين عن قراهم ومداشرهم، بفعل مشروع استعماري ترك جروحا عميقة في نسيج المجتمع الجزائري، حيث عملت فرنسا على إيقاف النمو الحضاري والمجتمعي للجزائر وحاولت طمس هوية الجزائريين وتصفية الأسس المادية والمعنوية التي يقوم عليها هذا المجتمع بضرب وحدته القبلية والأسرية. وإن كنا نحتفل كل سنة بعيد الاستقلال فإننا مطالبون بوضع بيان أول نوفمبر نصب أعيننا خاصة في مثل هذه الظروف والأجواء التي تؤكد سمو محتوى هذه الوثيقة التاريخية التي تحمل في طياتها ومضمونها أهدافا متعددة كالتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي باتت منذ أزيد من عقد من الزمن حقائق ملموسة يشهدها ويتمتع بها الجزائريون في مختلف جهات الوطن بفضل سياسات الإصلاح والتوجيه المنتهجة. إنجازات جعلت الجزائر نموذجا للسلم والأمن الشعب الجزائري الذي يحتفل اليوم بعيد الاستقلال والشباب في أجواء من الاستقرار والأمن والمصالحة والتنمية الشاملة، لا يسعه في هذه الذكرى الغالية إلا أن يقف وقفة إجلال وترحم وخشوع على أرواح قوافل الشهداء الأبطال الذين ضحوا بأرواحهم من أجل أن يرفع الشباب الجزائري رأسه عاليا في كل المحافل، فخورا ومعتزا بجزائريته وبرايته الوطنية، كون الجزائر وبعد سنوات من انتزاع استقلالها وتغلبها على المصائب والمآسي التي خلفها بلاء الإرهاب الأعمى بفضل السياسة الحكيمة للرئيس بوتفليقة في إرساء معالم الوئام والسلم والمصالحة الوطنية، نجحت في تحقيق انتصارات باهرة، جعلتها تحتل مكانة رائدة في العديد من المجالات وتحظى باحترام العالم أجمع، خاصة في بعض القطاعات التي تتسم بالطابع الاجتماعي، الذي كرسه بيان أول نوفمبر، على غرار تبنيها لمبادئ مجانية التربية والتعليم والصحة العمومية والسكن، ناهيك عن الاعتراف بها كدولة قوية في مجال السلم والأمن، كونها قدمت أنجح الأمثلة والتجارب التي يقتدى بها في مجال محاربة الإرهاب وتسوية النزاعات الإقليمية والجهوية خاصة في ليبيا ومالي وتشبثها بمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، الأمر الذي أهل رئيس الجمهورية السيد عبد العزيز بوتفليقة إلى مرتبة المنسق الإفريقي لمكافحة الإرهاب والتطرف العنيف، بتعيين من نظرائه الأفارقة، وبعدها تبني منظمة الأممالمتحدة لمبادرة الجزائر لإقرار يوم عالمي للعيش في السلام، تم اعتماده هذا العام واحتفل العالم به لأول مرة في 16 ماي الفارط. دساتير وقوانين ثرية تكرس مبادئ الديمقراطية والحريات وحتى وإن كانت الجزائر دولة حديثة النشأة، فقد تمكنت من قطع أشواط معتبرة في مجال تكريس الديمقراطية وحرية التعبير وحقوق الإنسان، مقارنة بالعديد من الدول العربية والإفريقية، وتسنى لها ذلك بفضل العمل المستمر على استدراك العديد من النقائص في السنوات الأخيرة، من خلال التعديلات التي طرأت على الدستور والتي مكنت من توسيع الحريات وترقية الممارسات السياسية. فالجزائر وبعد 56 سنة من استرجاع سيادتها استطاعت أن تبني مؤسساتها وأن تحافظ على استقرارها بفضل نظامها الديمقراطي التعددي وإعلاء مبادئ احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية، رغم حداثة تجربتها في الممارسة التعددية. وبالرغم من الأزمة الأمنية التي عاشتها خلال العشرية السوداء، فإن هذه المأساة لم تحد من عزيمتها في مواصلة إنجازاتها على درب الديمقراطية وحرصها على تطوير ممارستها بتمكين الشعب من المشاركة في تسيير شؤون بلاده من خلال الإدلاء بصوته في الانتخابات، ولعل خير دليل على ذلك فصله في طي صفحة هذه الأزمة بالتصويت على ميثاق السلم والمصالحة الوطنية في 2005 والذي رسم خارطة طريق جديدة للحفاظ على مكتسبات الوطن، التي ضحى من أجلها الشهداء وأسس لعهد جديد من الاستقرار وترقية الممارسة السياسية. وتمكنت الجزائر من تعزيز موقعها في المجال الديمقراطي والسياسي في 2012 بفتح المجال لتأسيس عدة أحزاب سياسية وفتح المجال السمعي البصري للخواص لتكون هذه الأحزاب الجديدة والقنوات التلفزيونية المتعددة التي رأت النور، لبنة إضافية مكنت عدة تشكيلات سياسية من المساهمة الفعالية في الحكم خاصة بعد مراجعة عدة قوانين مثل قانون الأحزاب، الانتخابات، الإعلام، وقانون توسيع مشاركة المرأة في المجالس المنتخبة، الذي يعد سابقة في تاريخ السياسة العربية وحتى الدولية، حيث تجاوز عدد النساء في غرفتي البرلمان عددهن بكثير في كبريات الدول الأوروبية وغيرها من الدول المتقدمة. ومنذ الاستقلال التزمت الجزائر بالمعاهدات والاتفاقيات الدولية التي وقعت عليها في شتى المجالات ولم تتوان في تعديل وإثراء منظومتها التشريعية بما يتماشى والتحولات التي يعرفها عالم اليوم، لتتمكن من احتلال مرتبة متقدمة، ضمن قائمة الدول التي تمتاز بقوانينها الثرية، ما جعلها محل اهتمام العديد من البلدان الراغبة في الاستفادة من تجربتها في هذا المجال. كما عرف مجال ترقية حقوق الإنسان منذ الاستقلال، تطورا ملحوظا بشهادة المنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية التي تقوم وفودها بزيارات للجزائر ومعاينة مراكز الشرطة والمؤسسات العقابية لإعداد تقارير عن معاملة الموقوفين والمساجين. ولعل أهم ما يمكن ذكره في هذا الموضوع هو تحسين وأنسنة ظروف المساجين وتسهيل إعادة إدماجهم في المجتمع بتمكينهم من الدراسة والاستفادة من الحرية النصفية وتخفيف العقوبة، بالإضافة إلى إمكانية استبدال عقوبة السجن بالعمل ذات المنفعة العامة بالنسبة لبعض المحكوم عليهم غير المسبوقين قضائيا وغير المتورطين في قضايا إجرامية خطير، وكذا سنها لقانون السوار الالكتروني، لتكون ثاني دولة في القارة بعد جنوب إفريقيا تستبدل عقوبة السجن بارتداء السوار الالكتروني لبعض المحكوم عليهم في الجنح البسيطة. قرارات تاريخية تحافظ على الهوية الوطنية لقد اصطدمت سياسة الاستعمار الفرنسي في طمس معالم الهوية الجزائرية، وتجريد الشعب الجزائري من مقوماته الوطنية، بجدار المقاومة الشعبية إبان فترة الاحتلال، واصطدمت ذات السياسة بعد الاستقلال بسياسة صامدة اتبعتها السلطات العمومية في ترقية ثوابت الأمة وصونها. إن الجزائر ومنذ الاستقلال سهرت على حماية الهوية الجزائرية بتعليم اللغة العربية وتكريس الأمازيغية لغة وطنية في الدستور وتعميم تدريسها تدريجيا مع إقرار رأس السنة الامازيغية «يناير» عيدا وطنيا رسميا بمبادرة من رئيس الجمهورية الذي كانت له الجرأة والشجاعة في اتخاذ هذا القرار وغيرها من القرارات التاريخية التي عمقت وحدة الشعب وارتباطه بهويته. الحديث عن الإنجازات الكبرى التي حققتها الجزائر منذ استرجاع سيادتها، يستوجب التوقف أيضا عند قطاع التربية الوطنية الذي عرف تطورات هامة، تجسدت بفضل المجهودات المبذولة للقضاء على الأمية التي ناهزت 90 بالمائة غداة الاستقلال. وبفضل الإستراتيجية المسطرة منذ الاستقلال من أجل بناء مدرسة جزائرية ذات مستوى، تمكنت الجزائر من تحقيق جزء كبير من أهداف الألفية المدرجة في برنامج الأممالمتحدة للتنمية، حيث تجلى ذلك في تراجع نسب التسرب المدرسي وتمدرس البنات، ومضاعفة عدد المتمدرسين بفضل مجانية وإجبارية التعليم، وكذا القضاء على الأمية. ولا زال القطاع ماضيا في تنفيذ إصلاحات طموحة تهدف إلى الرقي بالمنظومة التربوية وجعلها في مستوى التحديات العصرية والتكنولوجية، ضمانا للجودة وتحرير المبادرات العلمية والفكرية. وإلى جانب قطاعي التربية والتعليم اللذين يشهدان استمرار جهود ومساعي تحسين التكفل بقرابة ال10 ملايين من الشباب المتمدرس في الأطوار التعليمية الثلاثة والطلبة الجامعيين، عرف قطاع السكن فقزة نوعية، تجلت في إنعاش البرامج السكنية بمختلف صيغها، وسجل اسم الجزائر في مقدمة الدول التي قضت على البيوت القصديرية في إفريقيا. ولعل من أهم الانجازات التي حققتها الجزائر المستقلة والتي لا يمكن أن ينكرها إلا الجاحد، يعكسه ذلك الكم الهائل من السكنات التي تم إنجازها منذ الاستقلال والتي تضاعف عددها عدة مرات في العشرين سنة الأخيرة، وتعرف في أيامنا عمليات توزيع ضخمة، تكرس الطابع الاجتماعي للدولة وحرصها الشديد على طي أزمة السكن التي كانت تعرف بأم الازمات في الجزائر. وفضلا عما يعرفه مجال إعادة تنشيط الفلاحة الجزائرية من نجاحات باهرة، أعادت المنتوج الفلاحي الوطني تدريجيا إلى سمعته في الأسواق العالمية، حقق القطاع الصناعي نتائج غير مسبوقة في مسار إعادة بناء القاعدة الصناعية الوطنية التي تزداد توسعا من يوم إلى آخر بفضل المصانع الكبرى التي تفتح في مجالات تركيب السيارات وصناعة مواد البناء وصناعة الأدوية والصناعة الغذائية، بفضل إقرار الدولة إجراءات تحديد الواردات حماية للإنتاج المحلي وتقليصا في فاتورة الاستيراد، ضمن نموذج اقتصادي جديد يقوم على تنوع الموارد ومحركات التنمية. كما سجلت الجزائر إنجازات هامة في مجال العصرنة وولوج عالم التكنولوجيا، حيث حقق برنامج عصرنة الإدارة واستبدال النمط التقليدي في التسيير بالتسيير العصري الذي يرتكز على تعميم التكنولوجيات الحديثة للإعلام والاتصال تطورا غير مسبوق، وذلك ضمن مسار تجسيد الحكومة الإلكترونية الذي قطع أشواطا معتبرة، فيما برز اسم الجزائر أيضا ضمن قائمة الدول المستكشفة للفضاء، وذلك بإطلاقها للقمر الصناعي الجزائر أكوم سات الذي يفتح آفاقا واعدة لتطوير مختلف الخدمات الاقتصادية والاجتماعية مستقبلا. الشباب في قلب الإصلاحات والبرامج التنموية ولما كانت مناسبة اليوم مزدوجة المغزى، تشمل إحياء عيدي الاستقلال والشباب، فإنه لا مناص من التذكير بأن الشباب الجزائري الذي يمثل نسبة 70 بالمائة من السكان، أصبح يحظى بالأولوية الكاملة في كافة المشاريع والبرامج التنموية التي تسطرها الدولة، وذلك من خلال إشراكه في صناعة القرار السياسي والإقتصادي ودعم دوره الفعال في الحياة الإجتماعية والثقافية والرياضية. من هذا المنطلق، جاءت مراجعة القوانين التي خفضت السن القانوني للترشح للانتخابات، الأمر الذي مكن العديد من الشباب من المشاركة في المجالس المنتخبة محليا ووطنيا، بالإضافة إلى إشراكه في مسيرة التنمية الاقتصادية بتشجيعه على الاستثمار واقتحام مجال المقاولاتية عن طريق مختلف أجهزة دعم التشغيل، وتسهيل حصوله على القروض البنكية لتمكينه من تجسيد مشاريعه الخاصة وتوسيع روح المبادرة لديه وتعزيز مكانته وموقعه ضمن دوائر صناعة القرار.