سكنت النغمات وانسحبت بنوتاتها نحو ركن مظلم لتبكي صاحبها الذي رحل حاملا معه العطاء والعبقرية التي طالما غطت ظلما وجورا عانى منه عالم الفن الجميل، فجمال علام لم يكن له شأن بالفن الهابط أو بعالم المال والأعمال، بل ظل مولعا بالبحث والإبداع لتبلغ ألحانه المدى، وقد كان بعضهم لا يصدق أن بعض المعزوفات ومؤلفاته الموسيقية من توقيعه، مثلما كانت الحال مع موسيقى حصة "سينراما" بالإذاعة الجزائرية، وكذا تلاحينه في مجال الموسيقى الروحية والصوفية التي أبدع فيها وحققت الانتشار عبر العالم، ناهيك عن "جوهرة" التي حيّا بها عاصمته الجزائر التي احتضنته كإنسان وكمبدع، فردّ لها الجميل كأقل واجب، كما قال ذات مرة. يرحل اليوم ليترك الفراغ الذي طالما ملأه بالروائع. استحق الراحل علام لقب سفير الأغنية الجزائرية في الخارج، وكان دخل عالم الفن من خلال بابه الصحيح وهو التكوين الأكاديمي، وبالضبط بمعهد الموسيقى ببجاية في الستينيات، وتتلمذ على يد الراحل صادق البجاوي، وكان له باع في مجال الموسيقى الأندلسية والشعبي قبل أن يشق طريقه في عالم الفن بأسلوبه الخاص القريب أكثر من الموسيقى العصرية. في 1973 أصدر جمال علام أول ألبوم له "مارا-أديوغال" (عندما يعود) إحد أشهر ألبوماته، وبه تعرف عليه الجمهور الجزائري من خلال التلفزيون، وردد هذه الأغنية الجزائريون بطلاقة حتى من الذين لا يتكلمون الأمازيغية. كما أعجب جيل تلك الفترة من الشباب وحتى الصغار، بطريقة أدائه التي كانت بمثابة ثورة في الأغنية الجزائرية، ثم تبع ذلك ألبوم "أحلام الريح" في 1978، و«سي سليمان" في 1981، و«ساليمو" بعد أربع سنوات. قبل ذلك؛ أي في سنة 1967 عندما كان يشغل مسير آلات بمسرح جيمناز بباريس، التقى الفقيد نجوما بارزة في الأغنية الفرنسية، منهم براسانس وجورج موستاكي وليو فيري وبرنار لافيليي. وفي 2001 أصدر الفقيد رفقة المؤلف صافي بوتلة ألبوم "قوراية" الذي حقق نجاحا كبيرا في الجزائر وفي أوروبا. نشط الراحل عدة حفلات بأوروبا وأمريكا ليحقق سماعا أوسع للأغنية القبائلية في الخارج، كما أعطى للموسيقى العربية لمسة من السحر لا يعرف طلاسمها سواه، ليجذب إليها المستمعين الذين انبهروا بتجلياتها الروحية والحضارية العابرة للزمان والآفاق، ويكاد يكون سيدا لوحده في هذا المجال على الساحة العالمية. وفي مجال السينما أخرج جمال علام "المقعد العمومي" سنة 2012، وهو فيلم قصير، تُوج بالعديد من الجوائز، وتميز بالتوزيع المبتكر المنفتح على موسيقى العالم، وباستعمال آلات موسيقية كثيرة، وبالتجديد، والتجريب، والتنويع الشديد. وتفرّد جمال علام بالألحان الأصلية، وذلك ما جعله موضع تقدير جيل كامل من الفنانين. خلال مسيرته الفنية الطويلة، خاض الفنان الراحل في قضايا التسامح والتحرر والعدالة والهوية والغربة والمرأة وغيرها. وبهذه الفاجعة عبّر فنانون وشخصيات ثقافية وسياسية عن حزنهم لرحيل المطرب والمؤلف جمال علام الذي وافته المنية أول أمس السبت بمستشفى بباريس، معربين عن أسفهم لفقدان رمز من رموز الموسيقى الجزائرية المعاصرة. ووصف مدير الديوان الوطني لحقوق المؤلف والحقوق المجاورة سامي بن شيخ، وفاة جمال علام ب "المؤلمة"، مؤكدا أن برحيل الفنان "ينهار جزء من بناء الموسيقى الجزائرية الناطقة بالقبائلية". أما سفير الجزائر بفرنسا السيد عبد القادر مسدوة فقد أعرب عن "عميق مشاعر التعاطف" مع أقارب الراحل والعائلة الفنية، مذكرا بزيارة أجراها شهر أفريل الفارط لجمال علام، الذي تلقّى علاجه بفرنسا. وتذكر المطرب ياسين زواوي رفيق درب وصديق الراحل، صفات رجل "سخي" ومتفان للفن بالرغم من مشاكله الصحية. أما عازف الغيتار المعروف لطفي عطار من فرقة "راينا راي"، فقد تأسف أيضا لرحيل فنان قدّم الكثير للجزائر. من جهته، أعرب الصحفي والكاتب أرزقي مترف في رسالة تعزية نشرها على موقع التواصل الاجتماعي، عن حزنه لرحيل "صوت تطبعه السعادة". أما الروائي حميد قرين فقد أعرب عن أسفه في تغريدة له عبر موقع تويتر، لرحيل جمال علام، الذي سيبقى يتذكره كفنان "بصدر رحب". للتذكير، فقد تم إحياء مناسبة مرور 40 سنة على مسار جمال علام في نوفمبر الماضي بمدينة بجايةمسقط رأسه، وكان حينها مريضا، لكنه حضر الحفل وتأثر كثيرا. ويصل جثمان الفقيد جمال علام إلى أرض الوطن غدا الثلاثاء ليوارى الثرى في نفس اليوم بمقبرة سيدي أمحمد أمقران بمدينة بجاية، حسبما علمت وأج من أقربائه.