يلتقي 40 رئيس دولة وحكومة اليوم بالعاصمة البولندية، وارسو لحضور مؤتمر دولي يدوم يومين تحت شعار «ترقية مستقبل السلم والأمن في الشرق الأوسط»، تكون المقاربة الأمريكية لتسوية أقدم وأعقد الصراعات السياسية والحضارية في العالم محور النقاش في هذه الندوة ضمن ما عرف ب»صفقة القرن». وتبدو الفكرة جيدة ومرحب بها كونها جاءت في وقتها لوضع حد لحالة الانسداد التي عرفها مسار السلام الفلسطيني الإسرائيلي منذ اتفاقيات «أوسلو» التي رعتها اللجنة الرباعية قبل 26 عاما ولكن الموقف يتغير بمجرد أن تعرف النوايا الخفية من هذه الندوة التي دعا إليها الرئيس دونالد ترامب بمجرد وصوله إلى البيت الأبيض، وراح يؤكد مرارا أن تسوية النزاع في الشرق الأوسط التي وضعها ضمن أولويات سياسته الخارجية سيتم خلال عهدته الرئاسية. كما أن استعمال عبارة «صفقة القرن» لقضية سياسية معقدة جاء ليؤشر على النوايا الخفية من ورائها والنظرة «الماركنتيلية» التي وضعها الرئيس الأمريكي لإتمام مقايضة سياسية يكون الفلسطينيون أكبر الخاسرين فيها إذا سلمنا بالانحياز الذي ما انفكت تعلن عنه الإدارة الأمريكية الجديدة جهارا، إلى جانب مواقف الاحتلال إن لم نقل أن الصفقة في حد ذاتها جاءت بإيحاءات إسرائيلية ويعمل الرئيس الأمريكي على تكريسها على أرض الواقع. ومهما كان الواقفون وراءها ونواياهم، فهل ينجح الرئيس ترامب في تسوية الصراع في فلسطينالمحتلة بالاعتماد على المنطلقات التي رسمها لخطته التي اعتمدت بشكل كبير على المقاربة الإسرائيلية الرامية إلى تقزيم كل دور للسلطة الفلسطينية، بل محو كل دور لها في كل عملية السلام من خلال ممارسة ضغوط مالية قوية لإضعافها وتركيعها بهدف إرغامها على قبول الأمر الواقع المفروض؟. وهو سؤال يطرح نفسه بإلحاح، بل ويطرحه حتى الذين يحضرون اليوم إلى العاصمة البولندية خاصة وأن الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ بدء مبادرات السلام في الشرق الأوسط وضعت قضية الصراع في هذه المنطقة ضمن أولى أولوياتها وراح كل رئيس يتعهد بإنهاء هذا النزاع قبل مغادرته البيت الأبيض ولكنهم رحلوا جميعا ولم تزد سياساتهم، الوضع إلا سوءا وتعقيدا وأدخلت الأراضي الفلسطينية في حروب مدمرة، دفع الشعب الفلسطيني ثمنا غاليا لها. وكان مآل تصورات ومبادرات الرؤساء الأمريكيين من جيمي كارتر إلى باراك أوباما، الفشل الذريع رغم أنهم تظاهروا بالبقاء على الحياد وراحوا يقدمون الضمانات للفلسطينيين والعرب لقبول الانسياق وراء مساعيهم ولكنهم فشلوا جميعهم حتى في حلحلة الوضع، في وقت استغلت الحكومات الإسرائيلية الخذلان الأمريكي لفرض منطقها على الفلسطينيين معتمدة في ذلك على سياسة تسويف مقصودة من أجل التهرب من التزاماتها الدولية في مدريد ثم في أوسلو وتجسيد مشاريعها الاستيطانية لقتل فكرة الدولة الفلسطينية في مهدها. ولذلك، فإن الحكم بالفشل المسبق على مبادرة الرئيس ترامب هو الذي جعل الدول الأوروبية لا توليها اهتماما يتماشى مع التهويل الذي صاحب فكرة المؤتمر الدولي منذ إعلان كاتب الخارجية الأمريكي مايك بومبيو بداية الشهر الماضي عن تاريخ عقده وجعلها تكتفي بحضور رمزي من خلال مسؤولين من الدرجة الثانية والثالثة. وعكس مثل هذا الموقف التحفظي عن رفض أوروبي واضح للمقاربة الأمريكية في التعاطي مع قضية الصراع في المنطقة العربية لقناعتها أن أي حل منفرد ستكون نهايته الفشل، كما أن الدول الأوروبية التي لعبت هي الأخرى دورا محوريا في مفاوضات أوسلو لم تهضم قرار الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن، تهميشها وإعلان انفراد بلاده بمسار السلام في الشرق الأوسط ضمن طعنة في ظهر للجنة الرباعية المشكلة، إلى جانب الولاياتالمتحدة من روسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة. تهميش تريد إدارة الرئيس الأمريكي فرضه على حلفائها الأوروبيين وعلى روسيا التي بدأت تنظر هي الأخرى بعين الريبة إلى التحرك الأمريكي الرامي إلى تحييدها من أي ترتيبات سياسية في المنطقة العربية وقررت لأجل ذلك مقاطعة هذا المؤتمر. وإذا كان التحفظ الذي تبديه أوروبا وروسيا تحركه مصالحهما في منطقة بأهمية الشرق الأوسط، فإن الرفض الذي أبدته السلطة الفلسطينية للخطوة الأمريكية، حركته نزعة البقاء أو الفناء لقضية الشعب الفلسطيني وماهية استمراره في أرضه التاريخية على اعتبار أن الهدف النهائي من «صفقة القرن» يبقى تهميشا للسلطة الفلسطينية وقبرا لمشروع مبدأ «حل الدولتين» الذي يراهن عليه الفلسطينيون لإقامة دولتهم المستقلة، ودافع عنه الرئيس الأمريكي المغادر باراك أوباما قبل أن يأتي الرئيس الجديد لطي صفحته من خلال قراره نقل مقر سفارة بلاده إلى القدسالمحتلة ربيع العام الماضي في تصرف أكد بصمة صهره ومستشاره السياسي، جاريد كوشنير ذي الأصول اليهودية والذي لم يخف أبدا نزعته الصهيونية التي ترفض كل حق للفلسطينيين في أرضهم التاريخية. وجعل ذلك الرئيس محمود عباس يشن حملة إعلامية غير مسبوقة ضد المشروع الأمريكي وأكد أن السلطة الفلسطينية غير معنية بهذه الصفقة التي وصفها ب»المؤامرة الأمريكية» وأنه لا أحد بإمكانه التحدث باسم الفلسطينيين، في إشارة إلى عديد الدول العربية التي قبلت التوجه إلى فارسوفيا وأعطت ضمانات للرئيس الأمريكي بتمويل صفقة القرن. وفي حال سارت الدول العربية في سياق هذه المؤامرة، فإن الفلسطينيين سيجدون أنفسهم لوحدهم في ساحة مواجهة غير متكافئة مع قوة دولة بحجم الولاياتالمتحدة وإسرائيل، ويدفع هذا الاحتمال الوارد جدا إلى التساؤل فيما إذا كان العرب سيضحون بالقضية الفلسطينية التي شكلت منذ 1948 «شعرة معاوية» التي مازالت تربطهم، وإن هي تقطعت انفرط عقدهم وذهبت ريحهم إلى الأبد وحينها سنقول أن إسرائيل حققت حلم النظرة الصهيونية لإقامة دولة من النهر إلى البحر.