أخذت التجربة الجزائرية منعرجا حاسما في مجال محو الأمية منذ إطلاق الإستراتيجية الوطنية لمحو الأمية في 5 جويلية 2007، بغية القضاء نهائيا على آفة خلفها الاستعمار في مطلع 2016.. غير أن خصائص العصر الحالي الذي يتميز بتدفق تكنولوجي هائل، أوجد تساؤلات ملحة مفادها: هل تضمن المنظومة التربوية دفع مُخرجات ذات كفاءة إلى الاقتصاد الوطني.. وهل يمكن لهذه المخرجات أن تتماشى ومتطلبات مؤسسات القرن الواحد والعشرين؟ تأتي هذه التساؤلات في ظل المعطيات الجديدة التي لم تعد تثير مشكلة الأمية بمفهومها القديم بعد أن أفرزت أنماطا جديدة من الأمية، تطرح بالموازاة مع انشغال استقطاب 6.4 ملايين أمي لتخليصهم من الأمية المطلقة، مسألة التفكير في مدى القدرة على مواجهة الأمية الوظيفية والأمية المعلوماتية. قطعت الجزائر أشواطا كبيرة منذ الاستقلال لمحاربة الأمية ترجمها انطلاق الحملة الوطنية لمحو الأمية سنة 1963، تأسيس المركز الوطني لمحو الأمية سنة 1964، تجربة إدراج عمليات محو الأمية ضمن مخططات التنمية سنة 1970، وإطلاق مشروع محو أمية المرأة والفتاة خلال الفترة الممتدة من1990إلى2000، وهو ما تدعمه حاليا الإستراتيجية الوطنية لمحو الأمية. وهذه الإجراءات العملية تمثل في مجملها تحديا رفعته الجزائر من أجل مواجهة مشكلة صعبة تقف في وجه الإزدهار، مما أدى إلى تراجعها بنسب ملحوظة كما تدل عليه تقارير اليونيسكو، فمن50.4 في المائة سنة 1987 إلى30.1 في المائة سنة 2002 ثم إلى 25.4 في المائة عام 2006، لتصل إلى 21.3 في المائة في الوقت الراهن.. وهي نتائج مشجعة ينتظر أن تدعمها الإستراتيجية الوطنية لمحو الأمية التي تنطلق من مبدإ إشراك كافة فئات المجتمع والهيئات الحكومية المعنية وفق خطة شاملة.. وفي انتظار ما ستحققه هذه الإستراتجية على مدار عشر سنوات، يصف بعض المختصين والناشطين في مجال محو الأمية النتائج المحققة بالإيجابية، لاسيما إذا ما تمت مقارنتها بواقع الأمية ببعض البلدان العربية، إذ تتجاوز 28 في المائة في مصر.. بينما تتجاوز 50 في المائة في المغرب.. في حين تبلغ نسبة الأمية في الوطن العربي ككل 32 في المائة، أي ما يعادل 72 مليون حاليا.. مما يصنف الجزائر في قائمة الدول الناجحة في مجال مكافحة الأمية. علما أنها تواجه اليوم مهمة تحرير 6.4 ملايين أمي من ضمنهم 4 ملايين امرأة من أميتهم الأبجدية. وفي هذا الصدد يرى المختصون والناشطون في مجال محو الأمية، أن التطورات الحاصلة في المجتمع أفرزت حاجات جديدة وأنماطا جديدة من الأمية، تتجاوز تلك المتعلقة بعدم القدرة على القراءة والكتابة والحساب.. وفي هذا الإطار ترى الدكتورة عائشة بن عمار، أن الواقع المعيش في المدارس الابتدائية، الإكماليات والثانويات، أصبح يطرح مسألة الأمية الوظيفية التي تعد مشكلة جديدة تفتقر الجزائر إلى الدراسات الخاصة بها.. وهي تعكس باختصار حقيقة وجود أشخاص التحقوا بالمدارس، لكنهم لم يحصلوا على رصيد ضروري يساعدهم في حياتهم اليومية ويواجهون صعوبة في بعض النشاطات مثل التعبير الكتابي، حيث تبرز الأمية الوظيفية داخل المنظومة التربوية وخارجها. ففيما تتراجع الأمية المطلقة تظهر الأمية الوظيفية كمشكلة جديدة، يكرسها التسرب المدرسي الذي تشير أرقام وزارة التربية بخصوصه، إلى تسجيل 270 ألف متسرب على المستوى الوطني. ويبقى هذا الانشغال الجديد قابلا للاستفحال إذا لم يتم التفكير في حلول عملية، ذلك لأن هذه الظاهرة التي تنذر بدفع مُخرجات تعاني من الأمية الوظيفية إلى سوق العمل باتت تهدد بتكوين أجيال غير قادرة على الاستجابة لمتطلبات مؤسسات القرن ال21. وفي نفس السياق، تؤكد الدكتورة حليمة بوشاقور، خلال يوم برلماني حول الأمية بالعاصمة، أن العالم يشهد مناقشات خصبة حول طرق التعامل مع تكنولوجيات الإعلام والاتصال الحديثة، والتي أظهرت تسميات جديدة يتصدرها مجتمع المعلومات الذي يستدعي بدوره تغيير مفهوم التعليم، من منطلق أن هذا الأخير لم يعد مرتبطا بالمدرسة فقط بعد أن انبثقث حاجات جديدة وأنماط جديدة أيضا من الأمية. ويواجه العالم ككل مشكل محو الأمية المعلوماتية، باعتبار أن التدفق الهائل للمعلومات في زمن التكنولوجيا الحديثة، يدفع إلى التفكير في وضع برامج تتماشى والمعطيات الجديدة لاكتساب المهارات التي توصل إلى المعلومات وتساعد الفرد على تقويم اتصالاته وتمكنه من التعامل مع مؤسسات القرن الواحد والعشرين.. مما يضع الحكومات أمام مطلب ملح يدعو إلى إرساء نظام تعليمي رسمي يسمح باستغلال المعلومات والوصول إليها كأحد الأساسيات للتحرك في المجتمع.