بين رقّة الصوت وعذوبته وصفائه، والأغنية الهادئة أو الأغنية الكلاسيكية وحتى الإيقاعية، دَرَجٌ جميل يصعده المغني صابر الرباعي خفيفاً كظل شجرة، وبسيطاً كهمسة عاشقة، مع أن الصوت الرقيق في أغلب الحالات قد يكون محدود الإمكانات· نقول أغلب الحالات، لأن ثمة أصواتاً رقيقة في الغناء العربي القديم أو المخضرم كانت ممتلئة كصوت نجاة الصغيرة مثلاً، في حين كانت أخرى أقل امتلاءً كصوت كارم محمود· وصابر الرباعي من الحالات الخاصة في هذا المجال، كطاقة غنائية وكثقافة فنية معاً. إلى ذلك، يحرص الرباعي على مماشاة الجمهور رغم معرفته أنها سيف ذو حدّين قاسيين، فينجح حيناً في تفادي سلبياتها، ويُخفق حيناً آخر· مماشاة الجمهور مسألة شاقة ووليدة الخبرة والإتقان والتجربة والمراس، ليس في معرفة شِعَاب الأغاني وتوجّهاتها فقط، بل في رصد حركة الناس، جمهور الإذاعات والتلفزيون، وجمهور شراء الألبومات، لكنها لدى أدنى مبالغة، تودي بصاحبها إلى فخ محقق، إلى مشكلة قد تبدو للبعض دليلاً على نفاد السبيل وانقطاع زيت القنديل· هنا، يمكن القول إنّ مسيرة الرباعي من البداية هي نزهة على حدّ ذلك السيف، ممتعة ومخيفة، سهلة وصعبة· وهو يشعر بالخطر عند المبالغة فيرعوي ليبرهن عن ذكاء· يقسّم صابر الرباعي صوته إلى قسمين يكادان أن يكونا منفصلين، لكنهما مترابطان إلى أقصى درجة: قسمٌ يذهب به عميقاً إلى الأغنية الكلاسيكية فيطرح ويجمع ويضرب ويقسم ويؤتي ثماراً ناضجة، وقسم يذهب به عميقاً إلى الأغنية الإيقاعية، فيلعب ويلهو ويقفز ويجن ويؤتي ثماراً ناضجة أيضاً· حتى في الأغنية التي يريد بها الرباعي أن يتسلى ويسلّي جمهوره، لا يغفل عن المقاييس الفنية الجيدة التي يتناول بها الأغاني التي لا يريد بها تسلية، بل سماعاً نظيفاً قاعدته الاحتراف العميق، كأنه صيدلي يركّب المعادلات أدوية يشربها الجمهور برداً وسلاماً··· وكأن أغانيه مبنيّة على مزاج مضبوط بإيقاع الفنون الداخلي أولاً وأخيراً· ليست "هالله هالله يا بابا" أغنية أطفال، إنها أهزوجة تونسية قديمة في الأصل، سَحَبَها الرباعي من تراث بلاده ودفع بها إلى الجمهور العربي الذي تستهويه الهويات الفنية المحلية بقوة، فيها لم يكن "سيدي منصور" ولياً نائماً في الذاكرة، بل كان إنساناً من لحم ودم ومرح وحياة وغناء، هي أغنية خفيفة لطيفة تقف من دون أي خجل بين عدد كبير من الأغاني الرقيقة ذات الغنى التعبيري الشفّاف في تجربة الرباعي الفريدة، التي ينسجم فيها الصوت مع عقل صاحبه لا مع نوازعه الانفعالية، ويتناغم فيها الجدّ مع الهزل في إطار فني يحترم الجمهور، فلا يتنازل استجداءً له بقدر ما يتواصل معه بالفطرة السليمة· واحترام الجمهور ليس كلمة في الفم، إنه حقيقة لدى الرباعي يمكن ان تتحول عبئاً، وهو سعيد بهذا العبء، مستسلم له بوعي! وصابر ملحن، أحياناً، لا يوزع "اعطياته" التلحينية هنا وهناك وهنالك إلاّ في أغانيه هو على شكل جُمَل قصيرة، تحاول ان تضيف نكهة على الجملة الأساسية في اللحن، ونادراً ما يغني لحناً كاملاً له· تراه راغباً باستمرار في الإضافة، إضافة حركة صوتية أو نوته موسيقية أو "عربة" من العِرب الأدائية المعبّرة عن مهارة واكتمال من الرشد الغنائي، ودائماً يبقي على خيط الود قائماً مع ملحني أغانيه الذين يعرفون توجهاته في الإضافة فيتركون له هذا الهامش، وهو لا يتمادى· بلى، هناك نقيصة، ان "العِرب" الصوتية التي يضمِّنها صابر الرباعي الأغاني العربية القديمة التي يعيد أداءها، ليست ضرورية كلها، بعضها ضروري فقط، الكثافة هنا عرض عضلات مجاني، وتسجيلات الحفلات الحيّة المأخوذة من المناسبات الفنية العربية أو من الحلقات التلفزيونية، تفضح أن ما زاد عن حده انقلب إلى ضدّه·إنه المغني الذي يقيم وزناً لما يقول ويفعل ويغني··· إلاّ قليلاً جداً·.