العرب، حسبما نلاحظه اليوم، يكتفون من قراءة تاريخهم ببعض المراحل التي لا تقض مضاجعهم ولا مضاجع حكامهم مشرقا ومغربا. يرددون بعض الشعر، لا لأنه ديوانهم على حد ما قالوا به دائما وأبدا، بل لأنه يدفعهم إلى الاستكانة وإلى إراحة ضمائرهم كلما جد جديد حواليهم. ويتخيرون بعض النثر، لا للثورة على أوضاعهم المتردية، بل لأنه يريح بالهم وبال حكامهم جميعا. إذ ليس في اختياراتهم تلك ما قد يستحثهم على تغيير ما بأنفسهم. منتخباتهم في هذا الشأن تقع بطبيعة الحال على كل ما هو بارد، أو ما قد خبا لهيبه منذ أزمنة طويلة. الخليفة الفلاني يستقبل الشاعر الفلاني، وينصت إلى قصيدة يمدحه فيها. والحاكم الفلتاني يغرف من خزانة المال كيفما شاء، ويمنح هذه المغنية أو ذلك المطرب ما شاءت له نفسه أن تتكرم به. والعرب، بطبيعة الحال، لا يقرأون ابن رشد وابن عربي وابن البيطار وابن النديم وابن خلكان وابن خلدون وكل أولئك الأفذاذ الذين غيروا خريطة الحياة في زمانهم. كل ما من شأنه أن يحدث خلخلة في البنية الاجتماعية بعيد عن العرب في زمننا هذا. وأقرأ بالصدفة في صحيفة فرنسية خبرا عن آخر ما استجد من معلومات بشأن استكشاف المريخ، بل وأطلع على صورة فريدة من نوعها تمثل جانبا من الترسبات الجيولوجية على سطح هذا الكوكب. ويلفت نظري مقطع تفصيلي من الصورة يذكرني بجبالات اليمن، وكيف استطاع الفلاحون اليمنيون تسخيرها وزراعتها بما أرادوا من نباتات تفيدهم في حياتهم. لكن، ما يبعثني على الاستغراب هو أن إحدى المناطق المريخية تحمل اسما عربيا هو (الأرض العربية Arabia Terra) . ذلك ما ينبغي أن يبحث عنه العرب في تاريخهم الطويل. كيف تمكنوا من في أزمنتهم المجيدة من إطلاق مثل هذه التسمية على جانب من المريخ؟ وكيف تمكنوا في يوم من الأيام من إطلاق اسم (جبل العرب) على منطقة في الجنوب الفرنسي، بل، وكيف نقشوا اسم جبل طارق على أقصى نقطة من جنوب القارة الأوربية، وكيف بلغوا الهند والسند وجاوه وسومطره وبكين والجزر الخالدات وغيرها من أماكن الدنيا. وأعني بذلك أن روح المغامرة التي انطوى عليها أجدادهم ما عاد لها وجود في زمنهم هذا. غزة تذبح في الصباح وفي المساء وفي الليل، وهم يتفرجون على المذبحة تماما مثلما تفرج أجدادهم على المذابح التي أحدثتها فيهم حملة الاسترداد الكاثوليكي في الأندلس. تفرقوا دولا وشيعا وممالك، وتذابحوا وتناحروا، ظنا منهم أن الاستئثار بالحكم في هذه المنطقة أو تلك قد يكفيهم شر الأعداء القادمين من الشمال، وما أسرع ما دالت دولتهم. على العرب أن يعيدوا قراءة تاريخهم، ولكن، الجانب المشرق منه، ذلك الذي يثير الزلازل في أنفسهم، ولا يجعلهم يطمئنون إلى أشباه الحكام الذين يقودونهم إلى المناحر والمسالخ والمذابح في كل يوم. وعندئذ سيكون من حقهم أن يضعوا قدما راسخة في هذا الزمن.