ترحل سنة 2020 بكلّ ما خلّفته من أعباء ومآس وحصار شامل، لتترك لما بعدها مهمة ما يمكن إصلاحه، وقد يكون هذا التحدي ثقيلا لكنه ليس بالمستحيل مادامت الأحلام معقودة والسواعد مرفوعة..تمضي السنة العشرون من الألفية الثانية وهي متأكدة أنها لا تنسى فشهورها مرت مرور الثقلاء، لكنها في النهاية غادرت بغير رجعة. بالنسبة للمشهد الثقافي والفني فلقد كان مراقبا ومرافقا ومنتجا أيضا لم تنقطع فيه روح المبادرات والانتاجات والنشاطات والتتويجات، وتحققت معه بعض الامتيازات والحقوق، وعادت من سحيقه الغابر أسماء هّمشت وطمست لترى النور مجددا. سنة 2020 هي سنة كورونا بامتياز، لكنها كانت أيضا الفصل بين القرار المكين والزبد المتطفل على السطح الصافي، حيث ترجمت القدرات إلى الملموس وجلبت لها الأعين والآذان والوجدان والعقل وكان ذلك في الكثير من الأحيان بلا درهم ولا دينار، لتدخل الثقافة البيوت الجزائرية وتحقق مجانيتها التي لم تتحقق مع الشعارات والميزانيات، كما برز الفرق واضحا بين الغث والسمين ولم يكن المباشر ليخطئ هذا أو ذاك، وتراءت أسماء من العمق الجزائري ومن القرى والمداشر ومن الجنوب الكبير لم تكل ولم تمل..فتحت 2020 النقاش لإعادة صياغة الأفكار منها قلب القاطرة وجعل الثقافة في المقدمة كاستثمار بشري واقتصادي وحضاري فوحدها من طوّعت الأوضاع وكانت ملاذا للمحبوسين مكنتهم من أن يتجاوزوا الأسوار والحدود ويزدادوا وعيا ونضجا..الجزائر على ما يبدو عازمة على مدّ بصرها لاستشراف ما بعد كورونا على الأقل في المجال الثقافي والفني من أجل اكتفاء ذاتي في زاد العقول لصيانة الهوية وبناء الإنسان . في ظل العدوان الكوروني بزوغ المبادرات ومواصلة الابداعات عبر الأرضيات الرقمية اعتمدت الجزائر مقاربة خاصة بفترة كورونا ممثلة في تفعيل النشاط الثقافي عبر العالم الافتراضي، مع الحرص الدائم على الالتزام بالإجراءات والتدابير، ومن النشاطات التفاعلية هناك زيارات المواقع والمتاحف الأثرية والندوات الفكرية والأدبية والسهرات الفنية والحوارات المباشرة والعروض المسرحية والسينمائية وبرامج الأطفال وغيرها عبر المنصات الرقمية، وبينما كان هذا الجانب التقني محتشما لا يكاد يظهر في الصورة أصبح مع الجائحة ملاذا سانحا، فربما كانت كورونا ضارة نافعة سمحت من خلال هذا الفضاء الالكتروني من تعميم الأنشطة المختلفة وشيوعها بين الجمهور الواسع للفضاء الأزرق، ما يعيد الحسابات حول أهمية هذه المنصات في الشأن الثقافي والفني مستقبلا. التزم الجزائريون بالإجراءات الوقائية وتوخي الحذر واعتماد التباعد في المعاملات اليومية، لكنهم بقوا متواصلين ومتفاعلين مع الشبكة العنكبوتية التي اتّسعت مساحاتها لكثير من الفعاليات والنشاطات الثقافية والنوادي الأدبية. تبين للجزائريين في فترة كورونا 2020أكثر من غيرها من الأزمنة الفائتة، أنّ للثقافة وجود وأنهم بحاجة لها لا تقل عن حاجة القوت والسلع والخدمات، ومن ثم تعزّزت فكرة التفاعل الثقافي الإلكتروني العابر للبيوت والحدود، وهكذا تمت متابعة العديد من الأنشطة والتفاعل معها منها تلك التي تبث على المباشر، ناهيك عن التظاهرات والمسابقات والعروض الموسيقية والسينمائية والمسرحية. لم تتوقف الحياة الثقافية يوما في زمن كورونا بفضل الفضاء الأزرق الذي كان له نصيب الأسد، ما سمح بكسر حدة الحجر المنزلي، رغم أنّ البعض كان يرى أنّ الفعاليات الأدبية على أرض الواقع لها مذاقها الخاص، منها اللقاءات ورؤية الأصدقاء والمعارف بشكل حسي ومباشر، والإنصات مباشرة للشاعر أو الكاتب. الفضاء الأزرق راعي الثقافة يرى المتابعون أنّ تصاعد الاهتمام بوسائل التواصل الاجتماعي وازدياد عدد مرتادي المواقع والمنصات الإلكترونية، يفوق دور الوسائط والفضاءات التقليدية، بل أصبحت مصدرا للأخبار والنشاطات الثقافية، ويتابع الجمهور كل جديد وكل ما يدور من أحداث ونشاط . مرت الجزائر والعالم في سنة 2020 بأزمة غير مسبوقة، فرضها فيروس كورونا أجبرت الجميع منذ شهر مارس على الانسحاب إلى المنازل والتزام عبارة "ابق في بيتك" التي صارت شعاراً عالمياً، وفي ظل الحجر الصحي والتباعد الاجتماعي تعطلت النشاطات الثقافية، لكن البديل كان متوفرا ومتنوعا وغثا أيضا، فبدت المشاريع الثقافية والفكرية والمبادرات التي دشنها المثقفون والفنانون والناشطون من على صفحاتهم، وبينما تم إلغاء معارض الكتب والندوات الثقافية بعدما اجتاحت كورونا كل مكان، بدأ مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي بإطلاق النشاطات يوميا . راجت عمليات نشر أغلفة الكتب التي كان لها تأثير وانتشار، إضافة إلى ترشيح الأفلام وتقديم محتوى الأعمال السينمائية، كما أن عدداً من المتاحف وفرت خدمة التجول في قاعاتها افتراضياً، وبذلك تحققت الفرصة لمحبي الفنون والآثار لمشاهدة الأعمال والمنحوتات القيمة، وانفتحت صفحات مواقع التواصل الاجتماعي على حفلات غنائية مباشرة. وكان نجاح هذه النشاطات الثقافية والفنية التي كانت انطلاقتها القوية منذ شهر رمضان دافعا لإنشاء مزيد من الصفحات والمواقع في شؤون متعددة، وبذلك تفتقت المبادرات والعبقريات التي كان أغلبها بلا تصريح ولا ميزانية ورغم ذلك حققت النوعية، وبرزت معها إمكانيات الثقافة والفنون والمعارف في الجزائر العميقة عبر الولايات وإلى أقصى حدود جنوبنا الكبير، ولم تعد النقاشات الفكرية والمعرفية امتيازاً نخبوياً، أو محصورا في المدن الكبرى لتبرز على سبيل المثال لا الحصر مدن أخرى أثبتت إمكانياتها الجبارة في تصدر المشهد الثقافي والفني منها على سبيل المثال لا الحصر برج بوعريريج والوادي وسطيف وغيرها . الوصاية تساير الظروف صبّ تفكير وزارة الثقافة، على كيفية جعل الفعل الثقافي متماشيا مع الظروف المستجدة المتعلقة أساسا بالحد من انتشار الوباء، حيث تقرر في هذا الصدد تحويل كل الفعاليات والنشاطات الثقافية عبر الوطن إلى الفضاء الافتراضي، بما يسهم في تأثيث كل الأمكنة الثقافية بنشاط ثقافي يبرز مواهب وفنون كامنة، والتزمت الوصاية بدعم وتشجيع كل المبادرات الفاعلة والفعالة الخالقة للإبداع على كل المستويات خاصة تلك المتعلقة بإبداعات الأطفال وغيرهم من فئات المجتمع. ولأن التكنولوجيات الحديثة باختلافها أسهمت بشكل وافر وفعلي في جعل الروافد الثقافية بين أيدي متلقيها، فإن الثقافة في الجزائر واكبت وتواكب هذا المنحى بجعل كل ما هو تكنولوجي حديث خادما لإبراز الإرث الثقافي الجزائري وبما يدفع المواطن إلى التلقي بين جنبات البيت وفي كنف الأسرة بعيدا عن التجمعات، وهنا تجب الإشارة إلى أن المؤسسات الثقافية الرسمية لم تكن لها تجربة في العرض عبر الوسائط الالكترونية قبل الجائحة وبالتالي فإن هذه الفترة تعد بمثابة تجربة جديدة لمختلف المؤسسات القائمة. ولجأت العديد من المؤسّسات الثقافية إلى مواقع الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي وتطبيقات التراسل الفوري لعرض فعالياتها وإنتاجاتها الثقافية، من ندواتٍ ومحاضرات أو أعمال مسرحية وسينمائية، كما وفّرت مؤسسات أخرى مواد ثقافية (مثل الكتب والمجلّات) بشكلٍ مجاني. زحف الإبداع من عمق الداخل الجزائري أثبتت جائحة كورونا مدى نشاط المناطق الداخلية والولايات على خلق أجواء وفضاءات ثقافية متنوعة وفي شتى الفنون بإمكانيات زهيدة وبمبادرات شخصية وبمضامين قد تتجاوز تلك التي تقدمها المدن الكبرى بما فيها العاصمة، وبالتالي يتعزّز الرهان على التنمية الثقافية في الجزائر العميقة بما تملكه من إطارات وكفاءات ومواهب تستحق الثقة، ما جعل الوصاية واعية اليوم بحتمية إخراج الثقافة من سياسة المركزية الإدارية من المدن الكبرى إلى الأرياف والقرى التي باتت مستعدة لاستيعاب سياسة الوزارة ممثلة لإدارة الدولة في رفع وتيرة التنمية الثقافية ودفعها في المسار الصحيح. كما يتم اليوم وفي ظل كورونا الدفاع بشراسة عن الإطارات المثقفة في المناطق الريفية والتي تملك الأدوات لإدارة أهم المؤسسات الثقافية إذا ما حظيت بثقة الإدارة الوصية. كورونا حرضت على الإبداع التزم المثقفين والفنانين بيوتهم كعامة الناس، لكنهم استثمروا في الإبداع من خلال الكتابة أو التلحين أو الغناء أو الرسم وغيرها وأحيانا يكون ذلك على المباشر، وتفاعل هؤلاء المبدعون مع فترة الحجر بالإيجاب، وظهر في هذا الشأن مثلا ما عرف "أدب كورونا"، وتميز بعضهم بتأهبهم الدائم، وأوراقهم الحاضرة في كل حين وحال. في زمن كورونا كتب الكثيرون من كتّاب وأدباء عن الوباء معبرين عن حالتهم النفسية،، إلا أنهم لم يسقطوا راية الابداع ولم يقفلوا باب الأمل بل حملت قصائدهم ونصوصهم ومقالاتهم المعاني التي تطالب بضرورة الصمود وبثت روح التحدي والإصرار على استكمال الحياة بأي شكل كان ولو من خلال الفضاء الإلكتروني. أسماء عديدة قدمت إبداعها خلال هذه السنة ولاقت النجاح والترحيب منها مثلا ياسمينة خضرا وبوعلام رمضاني وأحمد حمدي والزاوي وفيصل الأحمر وغيرهم كثير، كما نشر بعضهم خارج الوطن وحقق النجاح، فيما قدم آخرون جانبا من الذكريات والوثائق عن نشاطات ثقافية في فترات متفاوتة من تاريخ الجزائر، ناهيك عن إصدار بعض الدراسات والكتب التاريخية وغيرها، واقتراح عناوين معينة للقراءة. تعويض الفنانين المتضرّرين ماديا عوّضت الجزائر الفنانين المتضررين جراء تفشي جائحة كورونا بمبالغ مالية، وبادر الديوان الوطني لحقوق المؤلف والحقوق المجاورة إلى دعم الفنانين المتضررين (المتوقفون عن نشاطهم) من كورونا التي أعلنت عليها وزارة الثقافة . تم إحصاء 5517 طلبا عبر الإنترنت والفاكس والبريد، علما أن شروط الاستفادة تمثلت في الانتساب إلى الديوان الوطني لحقوق المؤلف والحقوق المجاورة والمجلس الوطني للفنون والآداب واكتساب رقم تعريف حساب بنكي.ودفع الديوان التابع لوزارة الثقافة على مرحلتين مستحقات مالية ل1100 فنان عبر حسابات بنكية وبصيغة مباشرة. وحصل حوالي 319 فنانا منتسبا للديوان على مستحقاته في بداية الجائحة، في حين دفعت مستحقات 781 فنانا كمرحلة ثانية وهكذا استمرت العملية. الدخول الثقافي: تقليد واعد ومميز أعلنت وزارة الثقافة والفنون لأول مرة منذ الاستقلال، عن الدخول الثقافي لموسم 2020–2021، تحت شعار "ثقافتنا في تنوعنا ووحدتنا"، والذي سيصبح تقليدا سنويا كما هو الحال في كثير من دول العالم. وجاءت المبادرة في ظرف استثنائي تمر به البلاد بوضع تصنعه جائحة وباء كوفيد 19، والذي أثر جذريا على السير العادي للأنشطة الميدانية في مجال الثقافة والفنون، وما إن تقرر الفتح التدريجي لبعض مؤسسات قطاع الثقافة قصد إعادة بعث الأنشطة جزئيا وفق بروتوكول صحي، وجدت الوزارة الفرصة لإعلان المبادرة، بأن تفتتح الدخول الثقافي لهذا العام ببرنامج ثري ومختلف ومميز، فحملت هذه الدورة اسم الأديب والمفكر الكبير محمد ديب، عرفانا بمساره الأدبي والفني الغني، ودعوة للمبدعين الشباب للاقتداء بمشواره في الرفع من قيمة الكتاب والحركة الأدبية والثقافية بصفة عامة، للسير على رسمه الطيب، وكذا لتثمين علم من أعلام الحركة الأدبية في الجزائر. وبهذا سوف تؤسّس وزارة الثقافة والفنون لتقليد ثقافي راقي لطالما تمناه أهل الثقافة في الجزائر بعدما كان صالون "سيلا" يمثل رمزيا الدخول الثقافي في الجزائر.