حفلت السنة الأولى من انتخاب رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، بإنجازات دبلوماسية متميزة، بعد سنوات من الجمود الذي كرسته إفرازات العهد البائد. ففي الوقت الذي كان البعض يراهن على انكباب الجزائر على نفسها، بعد سنة كاملة من الحراك والأزمة الاقتصادية التي تسبب فيها انهيار المحروقات ووباء "كوفيد 19"، نجحت الجزائر في استعادة دورها على الساحة الدولية في ظرف قياسي، باعتماد مقاربات جديدة متكيفة مع التحديات الراهنة، التي تؤشر لبروز تحالفات جديدة في إطار موازين القوى، التي أفرزتها تداعيات الأزمة الصحية العالمية. سطر الرئيس تبون فور انتخابه، كل الخطوط العريضة لسياسته الخارجية المستمدة من الثورة التحريرية، عندما شارك وفد لجبهة التحرير الوطني في ندوة باندونغ سنة 1955، إذ من أسسها عدم التدخل في الشؤون الداخلية واحترام القانون الدولي، وبناء نظام سياسي واقتصادي عالمي جديد، وحق الشعوب في تقرير المصير ومساندة الشعوب المحتلة. تركزت السنة الأولى من عهدة الرئيس تبون، على تعزيز الاستقرار السياسي المؤسساتي والأمني، لما له من وقع إيجابي على الأداء الدبلوماسي والصورة الخارجية للبلاد ومواقفها المبدئية، من منطلق أن جميع مؤسسات الدولة تعمل على تنفيذ سياسة متناسقة، بالاعتماد على ثلاثية "السيادة والأمن والتنمية"، التي تسمح لها بالدفاع عن المصالح العليا للأمة والحفاظ على الأمن الوطني، واستقلال القرار السيادي والاستغلال الأمثل لفرص الشراكة والتعاون في سبيل التنمية. العودة القوية للدبلوماسية الجزائرية على الساحة الدولية والإقليمية، ما هي إلا انعكاس لعهد جديد تعرفه الجزائر بمشروعها الذي يقوده رئيس الجمهورية نحو جمهورية جديدة، يكون فيها للسياسة الخارجية، الدور الفاعل لخدمة المصالح العليا للدولة. وأمام هشاشة الوضع في دول الجوار، فإن صون الأمن الوطني أصبح يفرض نفسه بقوة، مما يستدعي تثمين الإجماع الذي تحظى به السياسة الخارجية الجزائرية لدى الرأي العام الوطني، لاسيما عندما يتعلق الأمر بدعم القضايا العادلة في العالم، والمسائل المتعلقة بالجوار الإقليمي المباشر، وكذا فيما يخص المساعي الدبلوماسية الرامية إلى صد التهديدات الأمنية في المنطقة. كما أن تردي الوضع الأمني السائد في منطقة الساحل ودول الجوار، وتنامي العمليات الإرهابية وجماعات الجريمة المنظمة في هذه المنطقة، يفرض أكثر من أي وقت مضى، مضاعفة الجهود من أجل صون الأمن الوطني في إطار سياسة وطنية شاملة، تكرس الارتباط الوثيق بين السيادة الدفاعية للبلاد وسياستها الخارجية، لمواجهة مثل هذه التحديات، والنأي بالبلاد عن أي تهديد يمس استقرارها أو مصالحها العليا. من هذا المنطلق، فإن الدبلوماسية الجزائرية بتاريخها الحافل بالإنجازات، ستواصل عملها الدؤوب على تجسيد التوجهات الكبرى وأولويات السياسة الخارجية، مع إيلاء أهمية خاصة لإفريقيا وتعزيز وجودها وتأثيرها في منطقتي الساحل والمغرب الكبير، فضلا عن ترقية حركيات التعاون والشراكة والاندماج في كل التجمعات التي تنتمي إليها. كما أن الاهتمام تركز على تقييم العلاقات مع الشركاء الاستراتيجيين للجزائر لجعلها قوة توازن، من خلال الأخذ بعين الاعتبار المعطيات البراغماتية والحفاظ على مصالح البلاد، في التعاملات مع الشركاء الأجانب للجزائر ضمن مقاربة "الكل رابح"، في الوقت الذي كانت ومازالت فيه الدبلوماسية الجزائرية تفضل الفعالية على السجال والمعارك الكلامية الفارغة. تعزز الدور الدبلوماسي للجزائر على الساحة الدولية، منذ تولي رئيس الجمهورية مقاليد الحكم، لاسيما في تسوية النزاعات الشائكة بفضل الوسطية والحياد الذي طبع رصيدها الدبلوماسي منذ الاستقلال، مما أهلها لأن تلعب دورا مهما في مسار تسوية العديد من النزاعات الجهوية، حيث أكد الرئيس تبون في الكثير من المناسبات، على أن "مصداقية ونزاهة الدبلوماسية الجزائرية" يخولانها لأن "تلعب دور الوسيط" في حل مختلف الأزمات والقضايا الإقليمية والدولية. تجسدت أولى التحركات الدبلوماسية الجزائرية في مشاركة رئيس الجمهورية تارة، ورئيس الدبلوماسية صبري بوقدوم تارة أخرى، في العديد من اللقاءات، للنظر في الأزمات المستعصية، لاسيما تلك التي تشكل تهديدا لأمنها القومي. قنوات الاتصال مستمرة مع مختلف الأطراف الليبية كانت البداية مع الأزمة الليبية، التي شكلت أولوية للقيادة الجزائرية، لاسيما بعد التطورات الخطيرة التي عرفتها الأوضاع في الدولة الجارة، حيث جددت العديد من الأطراف الفاعلة في الأزمة، على المقاربة الجزائرية التي ما فتئت تنادي بضرورة حل سياسي للأزمة، من خلال حوار ليبي-ليبي يضم كل الأطراف في البلد تحت رعاية الأممالمتحدة، يفضي إلى بناء مؤسسات شرعية عبر انتخابات نزيهة وشفافة تقود ليبيا إلى بر الأمان. حرصت الجزائر منذ بداية الأزمة في هذا البلد الجار، على حث الفرقاء الليبيين على الانخراط في حوار شامل ترعاه الأممالمتحدة، يرافقه الاتحاد الإفريقي ودول الجوار من أجل طي صفحة الأزمة، بما يحفظ أمن واستقرار ليبيا ووحدتها وسيادتها، وبما يتوافق وطموحات الشعب الليبي في الأمن والاستقرار والتنمية، حيث شاركت الجزائر انطلاقا من روح التضامن مع الشعب الليبي الشقيق بفعالية، وعلى مختلف المستويات، في كل الجهود الهادفة إلى التوصل لحل سياسي، لاسيما قمة برلين في جانفي الماضي. كما تواصل الجزائر، بالتنسيق مع جميع الأطراف الليبية ودول الجوار، مساعيها الرامية إلى الحفاظ على قنوات اتصال مستمرة مع مختلف الأطراف الليبية، بغية الدفع بها إلى تغليب المصلحة العليا ولغة الحوار، التي تبقى السبيل الأنسب لإنهاء الأزمة. وهو الأمر الذي أكد عليه الرئيس تبون خلال مشاركته في مؤتمر برلين، بدعوة من المستشارة الألمانية انجيلا ميركل، في جانفي الماضي، مبرزا دور "التدخل السلبي" في عودة ظهور العنف في ليبيا، في الوقت الذي طالب المجتمع الدولي، خصوصا أعضاء مجلس الأمن، بتحمل مسؤولياتهم لضمان السلام والأمن في ليبيا، مع احترام سلامتها الوطنية وسيادتها الإقليمية. تفعيل مخطط الجزائر للسلم والمصالحة في مالي موازاة مع ذلك، فإن الدبلوماسية الجزائرية تنشط على الجبهة المالية التي لا تنفصم عن الملف الليبي، حيث نذكر في هذا الصدد، إيفاد الرئيس تبون وزير الشؤون الخارجية إلى باماكو مرتين في غضون بضعة أسابيع، لاقتراح تفعيل مخطط الجزائر للسلم والمصالحة، بطلب من كافة الأطراف المالية، بما في ذلك المجلس العسكري الجديد. فبعدما غاصت فرنسا في الرمال المتحركة لمنطقة الساحل، أضحت تطلب هي الأخرى تدخل الجزائر للمساعدة، مما يعكس عودة الجزائر إلى الساحة الدولية، والتي ترجمتها كذلك زيارة وزير الدفاع الأمريكي مارك إسبر للجزائر، التي تعد الأولى من نوعها لمسؤول أمريكي سام منذ 2006، بعد تلك التي قام بها دونالد رامسفيلد. الجزائر تدعم حق تقرير مصير الشعب الصحراوي بخصوص الصحراء الغربية، فإن موقف الجزائر من هذه القضية يتماشى وسياستها الخارجية، حيث تدعم حق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره، وفقا للشرعية الدولية وطبقا لقرارات الأممالمتحدة والاتحاد الإفريقي ذات الصلة، حيث تركزت دعوات الجزائر في العديد من المناسبات، على ضرورة تعيين مبعوث شخصي للأمين العام للأمم المتحدة، بهدف العودة إلى المفاوضات المباشرة بحسن نية، وبدون شروط مسبقة بين طرفي النزاع المغرب وجبهة البوليزاريو، لإنهاء نزاع طال أمده، وتمكين الشعب الصحراوي من التعبير بحرية عن إرادته. أمام التطورات الخطيرة التي عرفتها القضية الصحراوية، عقب العدوان العسكري المغربي في 13 نوفمبر الماضي على المتظاهرين السلميين في الكركرات، أقصى الجنوب الغربي للصحراء الغربية، حذرت الجزائر من تداعيات الوضع الذي قد يعرض السلام والأمن في المنطقة بأكملها للخطر. ووعيا منها بأهمية التموقع القاري، وضرورة تفعيل دور الاتحاد الإفريقي لتسوية الخلافات في البيت الإفريقي، دعت الجزائر خلال أشغال الدورة الاستثنائية الحادية والعشرين للمجلس التنفيذي للاتحاد الأفريقي، مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الأفريقي، إلى ضرورة تحمل مسؤولياته في الصحراء الغربية، وسط "الفشل التام لآلية الترويكا". ونظرا للمكانة والوزن الذي تحظى به الدبلوماسية الجزائرية على المستوى القاري، فقد كان لاقتراح الجزائر أذان صاغية في الاتحاد القاري، حيث قرر مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الأفريقي، في ديسمبر الجاري، استعادة ملف الصحراء الغربية، معلنا عن عقد اجتماع قريب، للنظر في تطورات القضية. نصرة القضية الفلسطينية.. مبدأ وعقيدة ثابتة لا تتزعزع التطورات التي طرأت على القضية الفلسطينية، لاسيما ما يعرف ب"صفقة القرن"، التي اقترحتها إدارة الرئيس الأمريكي المغادر دونالد ترامب، وما تلاها من إعلان العديد من الدول العربية والإسلامية التطبيع مع الكيان الصهيوني، دفعت بالدبلوماسية الجزائرية إلى التحرك من جديد، والتأكيد على رفضها لهذه "الصفقة"، الرامية إلى إنهاء القضية الفلسطينية، في الوقت الذي جددت فيه دعمها القوي والدائم للقضية، ولحق الشعب الفلسطيني الشقيق غير القابل للتصرف أو السقوط، بالتقادم في إقامة دولة فلسطينية مستقلة، وعاصمتها القدس الشرقية. بعد أسبوع من إعلان تطبيع بعض الدول العربية مع الكيان الصهيوني، جاء رد الجزائر واضحا وصريحا، من خلال تأكيد الرئيس تبون بأن موقف الجزائر ثابت إزاء القضية الفلسطينية، باعتبارها "قضية مقدسة بالنسبة إلينا وإلى الشعب الجزائري برمته"، متأسفا للهرولة والتطبيع. على الصعيد الأممي، لم تكتف الجزائر بموقف المتفرج، بل دعت إلى ضرورة إعادة الدفع بملف الإصلاح الشامل للمنظومة الأممية، من أجل تحسين أدائها وتعزيز كفاءاتها، وهو ما أكد عليه رئيس الجمهورية خلال مشاركته عبر الفيديو كونفرنس في الدورة العادية الخامسة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة، المنعقدة في سبتمبر الماضي. مشاركة الجيش خارج الحدود للدفاع عن السيادة الوطنية لعل أبرز ما ميز السنة الأولى من عهدة رئيس الجمهورية؛ إدراج مشاركة الجيش الوطني الشعبي خارج الحدود في التعديل الدستوري الجديد، الذي لا يعني البتة الدخول في تكتلات عسكرية موجهة ضد دول بعينها، أو استغلاله من الدول العظمى لسحق الشعوب الضعيفة أو تحوله إلى "دركي المنطقة"، إنما هو استعداد دائم للدفاع عن السيادة الوطنية ومصالح الجزائر، في ظل الظروف الإقليمية الراهنة والمستجدات الطارئة. والمتمعن في ما جاء في الدستور بهذا الخصوص، يسجل أن مشاركة الجيش الجزائري تتم في إطار منظمات دولية وإقليمية، إلى جانب اشتراط مصادقة البرلمان الجزائري بأغلبية الثلثين، علما أن العقيدة العسكرية من خلال دساتير الجمهورية، لم تتغير ولم تكن هناك مادة أو بند يمنع مشاركة الجيش في عمليات حفظ الأمن وإحلال السلام في العالم، حيث لم تدخر جهدا من أجل الاستجابة لدعوات المجموعة الدولية المتمثلة في منظمة الأممالمتحدة ومختلف المنظمات الإقليمية. كما سبق للجزائر أن دعيت في العديد من المناسبات، للمساهمة في مهام وعمليات حفظ السلم في مناطق مختلفة من العالم، سواء تحت راية الأممالمتحدة أو الاتحاد الأفريقي، وهو ما يعد اعترافا بمدى احترافية الجيش الجزائري، والاحترام الذي تحظى به الجزائر على الساحة الدولية. أعطت القيادة العليا للجيش في هذا السياق، أمثلة حية عن عمليات حفظ السلام التي خاضها الجيش الجزائري في عدة دول، على غرار "أنغولا، كمبوديا، هايتي، الكونغو الديمقراطية، أثيوبيا، بورندا"، ناهيك عن أول مشاركة لقوات من الجيش الوطني الشعبي خارج حدودها، وذلك في الحروب العربية الإسرائيلية في 1967 و1973.