كان زميلي القصصي الراحل، عمار بلحسن، صاحب مجموعة (حرائق البحر) عاشقا للفن السينمائي، ولفيلم (سر قرية سانت فيكتوريا) بوجه أخص، ذلك الذي يلعب دور البطولة فيه كل من أنطوني كوين، أعجوبة السينما العالمية، و(آنا مانياني)، أعجوبة السينما الإيطالية والأمريكية في نفس الوقت. والسبب في ذلك كله هو أن البطل استطاع أن يلعب مقلبا من أظرف المقالب على أذقان العساكر الألمان الذين احتلوا قريته وعاثوا فيها فسادا طيلة شهور وشهور. والحكاية هي أن أولئك العساكر كانوا يبحثون عن شيء واحد، أو عن كنز واحد، وأعني بها الخمور التي تنتجها قرية سانت فيكتوريا، وتعتقها في المخابىء تحت الأرض أو في رؤوس الجبال. لكن أهل القرية يرفضون الإنصياع للأوامر التي توجه إليهم بالكشف عن الأمكنة التي وضعت فيها تلك الخمور حتى وإن أدى بهم الأمر إلى أن يفقدوا في كل يوم حياة الواحد منهم تحت طائلة التعذيب أو رميا بالرصاص. ويعمد البطل والبطلة إلى إخفاء أكثر من مليون زجاجة من الخمور المعتقة التي يبحث عنها العساكر الألمان بغاية إرسالها إلى ألمانيا ترضية لهتلر ولرفاقه في الحكم. وينتهي الأمر بأن يتنازل أولئك العتاة عن مطلبهم، ثم يغادرون القرية تحت وطأة الخزي والعار. زميلي عمار بلحسن، عليه رحمه الله، كان معجبا بالدور الذي أداه أنطوني كوين وآنا مانياني. يروي لي حكاية الفيلم من البداية ولكأنني به لا يعرف أنني تفرجت عليه مرات ومرات. ويستوي قائما، ويعقد حاجبيه على سبيل الإشارة إلى مواطن الغرابة في الحكاية كلها، ثم يقول: لقد استطاع ذلك الفلاح البسيط أن يخدع العساكر الألمان ويسخر من شطحات هتلر وجوبلز وجورينغ وغيرهم من أساطين الشر في هذه الدنيا! وإنما استذكرت زميلي هذا لأنني تفرجت على الفيلم للمرة الخامسة أو السادسة، واستحضرت صورته في مستشفى (عين النعجة) وهو يوشك أن يخضع لمباضع الجراحين لاستئصال سرطان خبيث من معدته. قال لي ساخرا: أخشى أن أنام وألا أستيقظ بعدها أبدا. طمأنته ببعض الكلمات، فراح يتلو بعض السور القرآنية، ويردد بصوت مرهق: رب، مسني الضر! وددت حينها أن لو أعيد عليه حكاية الفيلم التي نسيها دون شك بسبب الألم الذي استبد بمعدته وبأجزاء أخرى من جسده، لكنني أبصرت الدموع تلتمع في عينيه فأحجمت، ذلك لأن آلام المرض، سواء أكانت نفسية أم جسدية، هي أقبح شيء يعانيه الإنسان في هذه الدنيا. كل شيء يتخذ طريقه، وقد خرج عمار بلحسن من المستشفى وعاش ما يقرب من عام آخر، في حين أنني دخلت نفس المستشفى بعده وخرجت منه سالما بحمد اللّه. ما أطيب الذكرى بدون ميعاد حتى وإن كانت تنطوي على بعض القساوة! في نفس اللحظة التي كان فيها زميلي عمار بلحسن يلفظ الروح في أواخر شهر أوت من عام 1993، كان هناك صديق آخر يلقى مصرعه في أحد سجون الجزائر بعدما اتهم بالإرهاب. فسبحان الحي الذي لا يموت!