أيها المستمعون الكرام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. نفحات مسكية، من الآفاق المكية، ما زالت تخترق المناهل، وتستقري المعالم والمجاهل، كلما أطلنا هذا الشهر المبارك الذي تتفتح فيه أبواب السماء بالخير والرحمة، ومن الخير للإسلام والرحمة به فتح مكة على حبيب الله ومصطفاه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم في العام الثامن للهجرة. لا، بل نفحات عنبرية، من شمائل خير البرية، ما زال يطرف طائفها على قلوبنا المكلومة ونفوسنا المريضة وأرواحنا المتألمة، فينضحها بالروح والريحان ويطربها من سورة الفتح بأرق الألحان، ويفضها بنعمة العافية، ويمسح عليها باليد الشافية، ويفرغ عليها من القوّة ما يعيد إليها الشباب. لا، بل ذكريات من ذلك الفتح الأغر المحجل، بذلك النصر العزيز المعجل، يعيدها علينا شهر رمضان كلما أقبلت مواكبه، وأشرقت في أفق الدهر العاتم كواكبه، وعادت بحسن الإياب، بعد طول الغياب، سفنه غانمة ومراكبه. لا، بل صفحات مجلوة، وأخبار متلوة، وحقائق عن الإسلام وحماته الأعلام شهد لها القرآن، فأصبحت بحياطته يخص بها بريد الزمن، وسائقه المؤتمن، إلى القلوب الجريحة فتقر، وإلى العيون الطريحة فتقر، وإلى الجنوب النابية فتستقر. ها صبا نجد أطفأ الوجد حين خلص نسيمه، وما عراره راق الشم شذاه والنظر اخضراره حتى عد من المتاع شميمه بأطيب عند المسلم من هذه النفحات، ولا ذكريات الشباب واجتماع الشمل بالأحباب بأوقع في نفسه من هذه الذكريات، ولا الحقائق تدرجت مختالة فطردت الوهم، والمعاني تواردت منسالة فصقلت الفهم، بأمكن في ذهنه وأصدق بفكره مما سطر في صحائف فتح مكة. ما يزال المسلمون بعون من الله، ما داموا يبتلجون من لفحات الدهر بهذه النفحات، وما زالوا مذكورين بلسان الصدق في الآخرين، ما دامت تجول في خواطرهم هذه الذكريات، وما زالوا مستمسكين بالحبال الواصلة لسلفهم ما داموا يتدارسون من تاريخهم الأول أمثال هذه الصفحات. إنهم حين يجلون في خواطرهم هذه الذكريات، يذكرون كيف نصر الله عبده، وكيف اعز جنده، وكيف هزم الأحزاب وحده، فتنقلهم الذكرى من عالم المسببات إلى عالم الأسباب، فتنصرف خواطرهم إلى البحث في سبب انتصار الحق على الباطل يوم الفتح الأكبر، وانتصار الخير فيه على الشر، وانتصار التوحيد على الشرك، فلا يجدونه إلا في إخلاص التوحد لله، وصدق العبودية له، ونذر الجندية في سبيله، وتلك هي الغايات التي أشار إليها من لا ينطق عن الهوى في استهلال خطبته يوم فتح مكة. يذكرون فتح مكة، فيذكرون بذكره ما يصنع الإيمان المتين إذا آزره اليقين، فإسلام قريش كان الأمنية الأولى لمحمد صلى الله عليه وسلم من يوم بعث، فهم عشيرته الأقربون، وأول من يؤثرهم أصحاب النفوس الكبيرة بالخير هم الأقارب قرابة النسب أو قربة الجوار، وقريش من محمد صلى الله عليه وسلم بالمكان المكين من الجوارين، ويزيد هذه الأمنية في نفس محمد صلى الله عليه وسلم ثبوتًا واستقرارا أن العرب كلها كانت تتنظر بإسلامها - بعد تعميم الدعوة - إسلام قريش، لذلك بدأ بدعوتهم إلى الهدى الذي جاء به، ولبث ثلاث عشرة سنة لا يبيت فيهم إلا داعيا، ولا يصبح فيهم إلا داعيا، وفتح مكة كان الأمنية الثانية لمحمد صلى الله عليه وسلم من يوم هاجر إلى يثرب، فمكة دار ميلاده ومطلع بعثه وميدان دعوته، وقبلة صلاته، ومجلى مناسكه ومجمع مآثر قومه، ومتبوأ إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، فلما اضطر إلى الخروج كان خروجه منها وسيلة إلى الرجوع إليها، ولولا أمر ربه المنطوي على حكم كشف عنها الزمان بعد، لما فارقها ولما رضي بغيرها بديلاً، فقد كان يحبها حبين: حب الفطرة والنشأة وحب الدين والإرث، فلما حم الواقع واقتضت الحكمة الإلهية الخروج منها كان دائم الحنين إليها، دائم التشوق إلى غزوها، وتمكين الدين فيها، وجر قومه قريش إلى الجنة ولو بالسلاسل، متنظرًا إيذان ربه بذلك، وما تلك السرايا التي كان يبعث بها إلى جهات مكة بعد الإذن له بالقتال إلا إرهاصات لفتح مكة والرجوع إلى موطن الميلاد والبعثة، وما تحويل القبلة من بيت المقدس إلى القبلة التي يرضاها محمد وهي مكة إلا خطوة في سبيل الفتح، وما غزوة بدر إلا مقدمة للفتح، وما عمرة الحديبية وما تبعها من صلح إلا تدبير إلهي للفتح، وما عمرة القضاء إلا سبيل لذلك. يذكر المسلمون ذلك ويرافقونه صلى الله عليه وسلم بأفكارهم من خروجه من المدينة إلى بَرّ الظهران في الليلة التي أسفر صباحها عن الفتح، فيرون كيف أذعنت مكة في ساعة من نهار إلى حق قضت في معارضته وحربه نيفًا وعشرين سنة، ويذكرون ذلك الحلم النبوي الذي فعل في نفوس قريش ما لم يفعله الجيش بكتائبه وأسلحته، يذكرون معاملته لأبي سفيان وهو في قبضته ببَرّ الظهران، وإكرامه لمثواه وجعله لبيته مثابة وأمنا، وأبو سفيان هو جامح الناس لحرب محمد صلى الله عليه وسلم يوم أحد، ومحزّب الأحزاب لحربه يوم الخندق: وأحد المدبرين لصده عن البيت يوم الحديبية، ويذكرون عفوه بعد القدرة على هند بنت عتبة، وإن في صدره منها لأشياء من يوم أحد، وتأمينه لعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وإجارته لمن أجارت أم هانئ بنت أبي طالب. كل تلك الخلال النبوية الجليلة مما تهب به هذه النفحات وتثيره هذه الذكريات وتأتي المكرمة التي غطت على جميع المكارم، وهي منه على قريش كلها بعد أن أظهره الله عليهم وقوله لهم: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»، وهذه هي التي تحقق شهادتهم فيه بأنه أخ كريم وابن أخ كريم، كلمة جبر بها كسر قريش، وكسر بها حدة الذين لا يشفي غيظهم على قريش إلا ضرب يزيل الهام عن مطيله. ولو أن انتقامه لهوى النفس *** لدامت قطيعة وجفاء أما نفحة النفحات التي ما زالت تنعش المسلمين إلى قيام الساعة ويرفعون بها رؤوسهم فخرا وتيها، في وضع قاعدة المساواة التي مات الأنبياء والحكماء وفي نفوسهم حسرة من عدم تحقيقها في العالم الإنساني، إلى أن جاء بها الإسلام وأعلنها محمد صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة فقال: "يا معشر قريش، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم، وآدم من تراب". أما تحطيم الأصنام التي حول الكعبة، فقد حطم مثلها أبوه إبراهيم الخليل، لكن محمدا صلى الله عليه وسلم طهر النفوس من الوثنية قبل أن يطهو وجه الأرض من الأوثان. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.