قلصت الوسائل الحديثة، من هواتف ذكية ولوحات رقمية مهمة ساعي البريد، وتخلى المجتمع عن خدمة هؤلاء، أمام توجههم نحو الرسائل النصية والاتصالات الهاتفية، ولم يعد للرسالة الورقية مكان في يوميات المجتمعات، ومنها الجزائر، التي هي الأخرى واكبت العصرنة رغما عنها، ولم يعد أي أحد على إثرها يلتقي بساعي البريد، ذلك الرجل المرتدي لزيه الكلاسيكي، وقبعته، والحامل لحقيبته الجلدية باللون البني الغامق، والذي رسم في مخيلة الطفولة، يقف أمام البيت حاملا رسالة خاصة للعائلة، أو بطاقة تهنئة، وغيرها، والتي كانت في زمن مضى، من كلاسيكيات الحياة الاجتماعية، يتبادلها الأقارب والعائلات والأصدقاء، للاطمئنان والسؤال عن الأهل، أو للمراسلة والتعرف، وحتى التهنئة والمعايدة. نسج سكان الأحياء، في وقت سابق، علاقة وطيدة مع سعاة البريد، الذين يتنقلون من بيت لآخر بصفة متكررة، يحفظون بذلك أحيانا أسماء أصحاب المنازل وعناوينهم، ويدركون حتى الرسائل القادمة ممن هي، وقد كون البعض معهم علاقة صداقة قوية ووطيدة، تجعل الساعي لا يكتفي بوضع الظرف البريدي في صندوق البريد، بل يسلمه ليد صاحبه، مما يدل على شدة العلاقة والصداقة، التي تصاحبها ابتسامات عريضة وجميلة، تعكس مدى حفظ الساعي وجوه سكان الحي الذي يزوره يوميا، طيلة مساره المهني. وتقتصر اليوم، مهنة ساعي البريد، على بعض الرسائل الإدارية التي لها طابع رسمي، والتي تبعث وفق بروتوكول إداري خاص، يبلغها سعاة البريد من تلك المؤسسات، أو حتى من شركات توزيع الكهرباء والغاز والماء، بل أوكلت مهمة تسليم الفواتير لعمال مكلفين بهذه المهمة لا غير، ولم يعد سعاة البريد يبنون تلك العلاقات الوطيدة مع السكان اليوم، فمع التوسع العمراني، والاكتظاظ السكاني، أصبح بالكاد يتم ملاحظة هؤلاء لدى مرورهم، لاسيما مع اختفاء البدلات الرسمية. حول هذا الموضوع، حدثنا رابح بن عميرات، عون تسجيل الرسائل، ورئيس مكتب بشركة البريد والمواصلات شرق العاصمة، مشيرا إلى أنه حقيقة، الشركة ومنذ سنوات، قلصت عمل السعاة، ليس رغبة في ذلك، وإنما إجبارا، فبعد إحالة الكثيرين على التقاعد، لا توظف الشركة إلا نسبة قليلة منهم عند الحاجة، نظير التراجع الكبير في خدمة البريد، ليس فقط أمام تخلي المواطنين عن الرسائل الورقية، إنما كذلك، بسبب الانتشار الكبير لشركات التوصيل، التي تعد اليوم بالعشرات، منها متعددة الجنسيات الأجنبية، وكذا المحلية، والتي تعمل عمل سعاة البريد في التوصيل وإيصال الطرود إلى أصحابها، حيث تعمل تلك الشركات اليوم، على نقل البضائع والطرود إلى أصحابها ما بين الولايات، وحتى إلى خارج الوطن، فلا حدود لها، وتوصيلها سريع، يجعل من البعض أوفياء لخدمة تلك الشركات. من جهته، أشار محمد شبيلي، ساعي بريد متقاعد، إلى أن ساعي البريد في الجزائر، مهنة، فعادة ما يرتبط حضورهم بحضور بطاقات بريدية جميلة من الأهل والأصدقاء، الذين يسكنون بعيدا حتى في دول مختلفة، وسماع أخبارهم كان يتم من خلال تلك الرسائل الجميلة، وكانوا كذلك يتراسلون بصور للأهل، فكان كل ذلك يرسم جوا من البهجة والفرحة المنتظرة، في ظل غياب كل وسيلة حديثة تسهل ذلك الأمر، لا هواتف ذكية، ولا لوحات رقمية لمراسلات نصية، ولا غيرها من مواقع التواصل التي تسمح بإجراء مكالمات فيديو. وأضاف المتحدث، أنه مع الحداثة والتطور التكنولوجي، تقلصت بالتدريج تلك المهام، بل واختفى الكثير منها، وأصبحت المهنة تصعب تدريجيا، فلا عمل خلال اليوم، فقط جلوس في انتظار طرود أو رسائل جد قليلة، وما زاد الطين بلة، ثقافة المجتمع حينها، والذي أصبح يعتمد على التكنولوجيا، ولا يهتم بأهمية تحيين عناوينه القديمة، عند تغيير السكن، وتحديق عنوانه لدى المراكز البريدية، ما يجعل السعاة أحيانا يتنقلون لساعات طويلة، فقط من أجل إيجاد عنوان واحد. حنين للزمن الجميل يحن الكثير من المواطنين لتلك "المهنة"، هذا ما أكده عدد ممن مسهم استطلاع "المساء"، حول مكانة سعاة البريد في قلوب الجزائريين، حيث أكد هؤلاء، أن تلك المهنة ترسم مظاهر "الزمن الجميل"، وذلك الساعي الذي كان يعرفه جميع سكان الحي، أصبح مع السنوات، أخ وصديق الجميع، وأن اختفاءه اليوم يخلق نوعا من الحنين للماضي، وحتى لجمال تلك السنوات، كلها يوصلها الساعي بكل أمانة لصاحبها، في تاريخ محدد لا تضيع ولا تغيب، حتى وإن طال وصولها.