❊ العقيدة السياسية الفرنسية وفية للمنطلقات الاستعمارية المحضة تبدو فرنسا حاليا كمن فقد البوصلة بسبب تلاحق الخيبات بعد فقدانها لنفوذها في القارة الإفريقية وطردها شرّ طردة من جميع مستعمراتها القديمة التي أنهت معها شراكاتها العسكرية، فضلا عن الانتقادات الكبيرة التي طالت الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال زيارته للمستعمرات الفرنسية بجزر المحيط الهادي، إثر الكوارث الطبيعية التي تعرّضت لها مؤخرا، بسبب تقصير حكومته في تقديم يد العون لها. أضحى الرئيس الفرنسي عالقا في عنق الزجاجة بسبب عدم قدرته على مجابهة الأزمات الداخلية التي تكابد بلاده، والتي انعكست بشكل جلي على السياسة الخارجية لباريس، لكن الأسوأ من كل ذلك انفلات الأمور من بين يديه لكونه لم يكن بمستوى تطلعات مواطنيه في المستعمرات الفرنسية بجزر المحيط الهادي خلال زيارته لها مؤخرا، حيث انهالوا عليه ب«الانتقاد والشتم"، بسبب تخلي حكومته عن مسؤوليتها في الوقوف إلى جانب المتضررين. الواقع أن ماكرون الذي أراد أن يضع البيض كله في سلة واحدة لم ينجح في الاحتفاظ بها كلها سالمة لأنه بدا عاجزا عن التحكّم في زمام الأمور بسبب الضغوط التي يتعرض لها من قبل الطبقة السياسية في باريس، جراء الانزلاقات غير المحسوبة التي ميّزت سياسته الخارجية والتي انعكست بشكل جلي على علاقات فرنسا مع محيطها الإقليمي وحتى مع مستعمراتها السابقة في القارة السمراء التي ضاقت ذرعا من التدخلات الفرنسية، كون اهتمام باريس يتركز على نهب ثرواتها فحسب. وأمام هذه المعادلة، لم يكن مصير فرنسا رابع قوى عالمية سابقا سوى التهميش في ظل بروز قوى جديدة شكّلت المشهد السياسي العالمي وفق أطر ومفاهيم جديدة، ساهمت في صناعتها إفرازات المتغيرات الإقليمية الراهنة خاصة في ظل التطوّرات في الشرق الأوسط والحرب الأوكرانية الروسية، فضلا عن الأزمة الاقتصادية المنجرة عن جائحة كورونا التي اجتاحت العالم سنة 2019. وإذا كان الرئيس الفرنسي قد حاول استعادة مكانته وحفظ ماء وجهه بالدوس على القانون الدولي من خلال اعترافه بسيادة المغرب على الصحراء الغربية حتى وإن كان ذلك على حساب علاقة بلاده مع الجزائر، فإن نحس هذه الخطوة ظل يطارده من خلال توالي الصفعات التي تلقاها من دول إفريقية كانت آخرها دولة التشاد التي طالبت بصريح العبارة توقيف التعاون العسكري مع باريس، غير أن ما لم يكن يتوقعه ماكرون هو أن ينتفض مواطنوه من ارخبيلات تبعد بعشرات الآلاف من الأميال عن باريس وتضم قلة من السكان في وجهه، بسبب تخليه عن مسؤولياته في مواجهة الكوارث الطبيعية التي تتعرض لها هذه الجزر الواقعة تحت السيطرة الفرنسية منذ عقود. فقد انتقد سكان جزيرة مايوت المتضرّرة من إعصار "تشيدو"، الذي أسفر عن مقتل وإصابة أكثر من 60 شخصا، تصريحات الرئيس الفرنسي أثناء زيارته للجزيرة يوم الخميس الماضي، حيث قال ماكرون خلال جولته في الأرخبيل الفرنسي الواقع في المحيط الهادي "الوضع كان من الممكن أن يكون أسوأ لولا فرنسا"، ما أثار غضب السكان الذين كانوا يعانون من تداعيات الإعصار علاوة على الوضع الاجتماعي والاقتصادي المتدهور أساسا في الأرخبيل. وكانت لباريس معاناة تاريخية مع مستعمراتها المشاكسة في المحيط الهادي والذي لم يكن في الحقيقة هادئا لباريس بسبب الانتفاضات التي واجهتها من قبل السكان على غرار كاليدونيا الجديدة ومايوت، حيث كثيرا ما اندلعت أعمال الشغب بشعارات مناهضة لفرنسا، ما دفع بقوات الأمن الفرنسية التعامل معها بدموية، باعتبارهم مواطنين من الدرجة الثانية لا يتمتعون بنفس حقوق الفرنسيين. ويمكن القول إن العقيدة السياسية الفرنسية ترتكز على منطلقات استعمارية محضة وهو ما يتجلى في تعاملها مع مستعمراتها التي مازالت تحت سيطرتها، فضلا عن مستعمراتها القديمة التي تعتبرها بمثابة محميات لها، ما جعلها تجني الخيبات الواحدة تلو الأخرى دون أن تأخذ بعين الاعتبار المثل الفرنسي القائل "من يزرع الريح يجني العاصفة".