ليس الشعر كسائر الأشكال التعبيرية الأخرى. هذه حقيقة يعرفها الخاص والعام. إنه صاحب مقام متميز منذ أن عرف الإنسان التعبير عن أعمق أعماقه، أي منذ بداية البدايات. وأنا أستدل في هذا الشأن بما ورد في القرآن الكريم. الشعر كان له المقام الأول في القرآن الكريم، أي أن الله ذكر الشعر ولم يذكر الفنون التعبيرية الأخرى. ومعنى ذلك أن هناك شيئا إلهيا في الشعر بالذات. اندثرت فنون، وولدت فنون أخرى، واندثرت بدورها، لكن الشعر بقي هو هو حتى وإن تغيرت أشكاله على غرار ما حدث في القصيدة العربية منذ عصورها الأولى. ويبدو أن البحث لم يتوغل في موضوع الشعر على الرغم من ظهور الآلاف من الدراسات منذ عهد سليك بن السلكة، أي منذ الجاهلية الأولى. فلقد ظل البعد القرآني في هذا المضمار بعيدا عن الدراسات التي تتجرأ على التوغل وراء التخوم. ونحن، لم نقرأ إلى حد الآن، إلا دراسات عروضية ونحوية ولغوية مع بعض التحليلات الرمزية التي لا تسمن ولا تغني من جوع. فهل هناك من بحث، على سبيل المثال، في موضوع الإشارة إلى الشعر، وليس سوى الشعر في القرآن الكريم؟ الظاهر هو أن الشعر، من حيث الجوهر، لن يتغير بمرور الزمن، وذلك ما نلمسه بالذات في العديد من التحديدات التي وردت في القرآن الكريم. البحر يظل هو البحر، والسماء تبقى على حالها إلى غير ذلك من المسميات الأخرى، أي التحديدات القاطعة. ومعنى ذلك أنها حقائق ثابتة راسخة لا ينال منها الزمن. وكذلك الشأن بالنسبة للشعر، فهو الآخر ثابت من حيث الجوهر على الرغم من أنه عبارة عن رمال ما فتئت تتحرك منذ أن عرف الإنسان ما اللغة. وقراء الشعر، وناظموه في كل زمان ومكان، يظلون عاجزين عن تفسير سبب الإشارة الإلهية إلى الشعر دون غيره من الفنون التعبيرية الأخرى. هل يجوز بعد ذلك أن نخاطر ونغامر في أرض لا نعرف تضاريسها؟ وهل يحق لنا في نفس الوقت أن نبقى مكتوفي الأيدي في هذا الشأن؟ الشعر، حسب التعريف القرآني الشريف، أشبه ما يكون بشجرة الخلد التي نهى الله آدم عليه السلام عن الاقتراب منها. وهي شجرة دافعة على الاشتهاء حقا، ولذلك حامت مختلف التأويلات حولها، وبقيت في الوقت نفسه تسيل اللعاب، أي لعاب الشعراء وغير الشعراء. ولا نغالي إن قلنا إن الشعر جوهر من جواهر هذا الوجود، نضعه بين أيدينا مثل فص من الفصوص النادرة، دون أن نعرف تركيبة هذه الفصوص فيزيائيا اللهم سوى أنها قادمة من السماوات على غرار الحجر الأسود في مكةالمكرمة. ويظل الشعر بعد ذلك معادلة صعبة، شديدة التعقيد، ولن يتوصل الإنسان إلى فكها إلا في نهاية الأزمان.